فرنسا.. مفارقة ارتفاع منسوب التطرف الإسلامي في مجتمع علماني
الانتساب إلى الحركات الجهادية ليس جديدا، وفرنسا بالذات تشكل صورة عن البلد الذي حاز في ذلك سبقا على صعيد أوروبي.
كيف يمكن فهم ازدهار التطرف في ظل قوانين علمانية
تشغل فرنسا المرتبة الخامسة عالميا بين البلدان التي تمدّ الجماعات الإرهابية بالمقاتلين، وهي الأولى حين يتعلق الأمر بالأمم الأوروبية (بقيمة مطلقة على الأقل).
بالرغم من الوجود المتنامي لعدد النساء في فرق الفرنسيين التي اختارت الانتقال إلى الشرق الأوسط بهدف التضامن مع الحركات الجهادية ومدها بالمساعدات (العسكرية، الطبية، الاجتماعية، والاقتصادية…)، فإن العدد الأوفر مازال يتشكل من الذكور، وبشكل خاص من الشباب، بل الشباب الصغار، علما وأن ثقل الأحداث أو الصغار قد ازداد منذ عام 2012 (نجد العشرات من حالات الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة الآن، وقد انتقل بعضهم إلى سوريا أو قد التحق بالشبكات الجهادية داخل فرنسا).
فبعد أن أصبحت فضاء جغرافيا واجتماعيا مميزا للتحركات الجهادية في أوروبا، باتت فرنسا أحد أهم الممولين للمحاربين وللمتعاطفين مع توجيهات الحركات الإسلامية المتطرفة والعنيفة العاملة أو الناشطة حاليا في سوريا والعراق أيضا (هذا دون غض النظر عن بقاع أخرى يشعر فيها بمثل هذا الحضور في مناطق أخرى من العالم). وفرنسا مجتمع أغلبيته من غير المسلمين، وفيه تتمازج هويته السياسية – في غالب الأحيان- مع الدفاع عن علمانية عنيدة من الزاويتين القانونية والثقافية.
أما الهدف البعيد، فهو إقامة دولة تجمع مسلمي العالم كله، دولة تضم الناس جميعا، حتى الذين يعيشون في أوروبا. وهذا ما يفسره المنظرون للجهاد باعتبار هؤلاء جنودا في جيش يعيش حالة حرب دائمة. إن التطرف ولأنه يشكل صدى للعديد من الإشكاليات الثقافية التي تطال بنتائجها مجمل الحقول التي تكوّن المجتمع الفرنسي (السياسي والأمني والعسكري والدبلوماسي والاقتصادي والجامعي والثقافي والديني والاجتماعي) وبالرغم مما يثيره من اختلافات معرفية، فإن التطرف وانطلاقا من متخيل جهادي لدى بعض الفرنسيين، يجب أن يعتبر واقعة اجتماعية كلية. هذا يعني أنه حين ندرس الأُطر المنطقية لهذا النوع من الالتزام، فإن علينا أن نتناوله بالدراسة في إطار علم اجتماع العنف السياسي والديني.
تبعا للتقديرات الأكثر مصداقية، ثمة 1550 فرنسيا التزموا إلى الآن في حركات توصف بالجهادية، والتي تهدف بالرغم من النقاش بين مختلف المجموعات التي تعلن عن التزامها بهذه الأيديولوجيا، إلى إقامة شكل جديد من أشكال السيادة وسط مجتمعات تتشكل في غالبيتها من غير المسلمين، يقوم هذا الشكل على إلغاء كل أشكال الارتباط السياسي الديني، إذا كان هذا الشكل خارج إطار الخلافة.
إن الانتساب إلى الحركات الجهادية ليس جديدا، وفرنسا بالذات تشكل صورة عن البلد الذي حاز في ذلك سبقا على صعيد أوروبي، ذلك أنه بالإمكان معاينة أولى حالات التطرف وسط آثار الحرب التي جعلت النظام العسكري في الجزائر يواجه مجموعات إسلامية مسلحة حاولت محاربته طيلة عقد التسعينات، كما يتضح ذلك من خلال مسيرة خالد كلكال بطل أحداث صيف العام 1995، والذي انتهى الأمر بمقتله بعد هربه لعدة أسابيع في وقت لاحق. مع ذلك فإن وجه المحاربين الحاليين يبدو أكثر تشرذما من الناحية السوسيولوجية مع هذه النزعة الأقلوية التي تزداد نموا، والتي تعتبر الأشخاص ومنذ البداية مبعدين لا عن المرجعية الإسلامية وحسب، بل هم بلا علاقات تربطهم مع المسلمين.
هذا البعد وانعدام الصلات مع المسلمين يسهلان على المتطرفين الاستمرارية الأصولية العنيفة بشكل نسبي على الأقل على صعيد المسيرة السوسيولوجية.
وإذا كان البعد التخيلي قد اصطبغ بقيم وبمعايير تأخذ من الإسلام الأصولي النزعة المتطرفة، فإن دراسة سيرة الحياة الشخصية للجهاديين توضح لنا الضعف الكبير في الاندماج بالمؤسسات الدينية، أو حتى بالتشكيلات السياسية المؤسساتية.
ثم إن القوانين المتواترة عن السلفية المعاصرة (الفصل الكامل بين الطاهر والمدنّس، والعنف الرمزي الذي يوضع مكان النزعة الانحرافية)، ستجد نفسها وسط العمل الجهادي دون أن يكون القائلون بها قد تلقوا تنشئة اجتماعية وسط جماعاتهم، حيث إدانة الإرهاب والرغبة بقلب الأنظمة هما من الشعارات المكتسبة عامة، وهذا ما يستوجب عداء الجهاديين.
إن هذه الظاهرة تعزز فرضية كون التطرف الكامن في بعض أشكال الحركة الأصولية هو الذي يكسب السبق. وبالفعل حتى لو أمكن تفعيل المخيال السلفي من جانب القائمين على الجهاد المسلح، فإنه لا بدّ أن نلاحظ أن وجوده قبل الانتقال إلى الحركة الجهادية هو أبعد ما يكون تركيزا على احترام الإيعازات الدينية.
فالأخوان كواشي اللذان قاما بالاعتداء على صحيفة “شارلي إيبدو” في يناير 2015، أو أحمد غلام الذي خطط للاعتداء على عدة كنائس في باريس في السنة نفسها، يتميزون بمستوى ضعيف من الممارسة، بالتوازي مع السعي إلى الفداء الأخلاقي والاجتماعي الذي يعتبر أمرا يتشارك فيه كل الجهاديين الفرنسيين، الذين يعتبرون أن العمل العنيف سيؤدي إلى العفو عن ماضيهم.