احتجاجات لسد الفراغ السياسي أم بداية للتغيير؟
الاحتجاجات الأخيرة تبرز أن الخارطة السياسية الجزائرية لم تتطور إيجابيا، بل ما فتئت تعيد إنتاج نفس الأزمات التقليدية القديمة التي تسببت في تحريف مسار الدولة الجزائرية وحالت دون إنجاز التحديث والعصرنة.
ماذا تعني المظاهرات الاحتجاجية الطلابية السلمية التي شهدتها هذا الأسبوع محافظات المنطقة الأمازيغية بشمال الجزائر (بجاية وتيزي وزو والبويرة وبومرداس)؟ وهل يمكن أن تكون لها تداعيات لتتحول فيما بعد إلى مقدمة جدية للتغيير السياسي وذلك من أجل تجاوز فشل الأحزاب السياسية المعارضة في تحقيق أي فوز جدي في الانتخابات البلدية والولائية التي جرت مؤخرا، وإخفاقاتها على مدى سنوات طويلة في إنجاز أي اختراق سياسي جوهري وحاسم للنظام الحاكم ولأجهزته في القمة وفي القاعدة؟
وفقا لتحليلات الكثير من المراقبين في الجزائر، فإن عودة احتجاجات الحركة الطلابية الأمازيغية إلى المسرح السياسي الجزائري ليست مجرد ملء للفراغ السياسي في البلاد، بل إنها محاولة لإحياء تقاليد المعارضة الميدانية ذات الجذور العميقة في الأوساط الشعبية. وهنا يمكن تفسير هدف النظام الجزائري من وراء التقرير الذي قدمه مؤخرا أمام هيئة منظمة الأمم المتحدة حول التمييز العنصري، وضمّنه مقاطع كثيرة دافع من خلالها عن علاقته بالقضية الأمازيغية وهاجم فيها من سماهم بمهرّبي التاريخ، بأنه يدخل في إطار مواجهة المعارضة الأمازيغية، وخاصة الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبايل (حركة الماك) الداعية إلى الحكم الذاتي للمنطقة الأمازيغية.
وفي هذا الإطار يمكن أيضا فهم إرسال حكومة النظام الجزائري، السبت الماضي، لوزير الشبيبة والرياضة الهادي ولد علي إلى محافظة تيزي وزو للقيام شكلا بزيارة تفقد لعدد من مشاريع قطاع الرياضة التي يتولى مسؤوليتها، والتصدي من حيث الجوهر لأي مظاهرة في مدينة تيزي وزو.
على هذا الأساس ندرك مغزى تصريحه الذي قال فيه إن “الجهات التي تحرك الشارع اليوم للتنديد برفض البرلمان لترقية اللغة الأمازيغية، هي أطراف انتهى عهد استغلالها لهذه القضية سياسيا، وذلك منذ ترسيمها وجعلها لغة وطنية”.
لا شك أن تصريح الوزير الهادي ولد علي، يعني قطيعة نهائية مع الحركة الأمازيغية، كما يبرز الانقسام الحاصل داخل صفوف الحركة الثقافية الأمازيغية إلى صفين؛ أحدهما يلتزم بسياسات وخطابات النظام الحاكم، والآخر يلتزم بمواقف معارضة لتصورات هذا النظام لكل من القضية الأمازيغية وللعمل السياسي برمته. الاحتجاجات التي عرفتها المنطقة الأمازيغية بينت أن الواقع السياسي الجزائري يتميز بالهشاشة المفرطة، حيث لا يزال قابلا للاشتعال في أي لحظة ويمكن أن يشهد تفجيرا يعرض الجزائر لتطورات دراماتيكية، وتبرز هذه الاحتجاجات أن الخارطة السياسية الجزائرية لم تتطور، بل ما فتئت تعيد إنتاج نفس الأزمات التي تسببت في تحريف مسار الدولة الجزائرية، وحالت دون إنجاز التحديث والعصرنة.
وفي هذا السياق نلاحظ أن الأزمة الجزائرية لا تزال تتحكم فيها عدة عوامل متضافرة تؤثر في بعضها البعض ولم تجد حلولا عملية في ظل مناخ الحكم الديمقراطي، منها ما يتصل بالهوية التاريخية والثقافية واللغوية، ومنها ما يتعلق بطريقة تداول الحكم ومنهج تسيير أمور المواطنين، وهناك ما يتصل بقضية التنمية المادية التي تتعثر باستمرار وتساهم في تلويث البيئة السياسية والاجتماعية الجزائرية.
إن هذه الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة الأمازيغية الشمالية تعني من جهة تواصل انقسام قطاع من المواطنين والنخب السياسية حول طبيعة وخصائص الهوية الوطنية التي تتعرض باستمرار للتسييس والتعتيتم، وتبرز من جهة أخرى عدم إيجاد النظام الحاكم في الجزائر للحلول الصحيحة والجذرية للمشكلات المزمنة الكبرى التي فجرت الأزمات السياسية في ثمانينات القرن الماضي ومنها القضية الأمازيغية.
المشكلة المطروحة في الجزائر والمتعلقة بمسألة الهوّية الأمازيغية لا تزال مطروحة بشكل سطحي من طرف النظام ومن قبل المعارضة بمختلف انتماءاتها، ومما يؤسف له أن القضية الأمازيغية تختزل في المناورة السياسية الضيقة، أما الأمازيغية كتاريخ وثقافة ولغة فهي تتعرض الآن للانقراض التدريجي من مسرح الوجود.