محنة الدستور وسيادة الشعب في الجزائر
القضية التي لم يبرزها الرئيس بوتفليقة في خطابه الموجه إلى الشعب هي انعدام الثقافة الديمقراطية التي تحترم الدستور.
لقد تضمن نص الخطاب الذي وجهه الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة يوم أول شهر نوفمبر الحالي بمناسبة الاحتفال بذكرى اندلاع حركة التحرر الوطني، عبارة ذات أهمية استثنائية لم يحلل الإعلام الجزائري، الرسمي أو التابع للقطاع الخاص، مضمونها ومقاصدها.
في هذه العبارة قال الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بأنه “من الآن فصاعدا.. الوصول إلى السلطة لن يكون إلا عن طريق الدستور وسيادة الشعب”، ثم أوضح ما يعنيه قائلا “لقد ولَى عهد الـمراحل الانتقالية في الجزائر التي ضحى عشرات الآلاف من شهداء الواجب الوطني من أجل إنقاذ مؤسساتها السياسية، وبات الوصول إلى السلطة من الآن فصاعدا يتم عبر الـمواعيد الـمنصوص عليها في الدستور، ومن خلال سيادة الشعب الذي يفوضها عن طريق الانتخاب على أساس البرامج الـملموسة التي تعرض عليه”.
ماذا يعني الرئيس الجزائري بقوله “من الآن فصاعدا”؟ ولماذا يتم غض الطرف عن خرق الدستور في عهده والذي تم في شكل تعديلات مرتجلة له وعلى مقاسه هو وعلى مقاس الجماعة المحيطة به في قصر المرادية وفي مختلف الأجهزة التي تصنع القرار السياسي في أعلى هرم مؤسسات الحكم؟ وهل يمكن ألا يخترق الدستور ذاته مجددا وبشكل تعسفي في المستقبل القريب بعد أن ترسخت ثقافة التلاعب به مرارا وتكرارا؟
يبدو أن الرئيس بوتفليقة يريد أن يوحي بأنه يمارس في كلمته نقدا مضمرا، وذلك من أجل أن يفهم منه أن من سبقوه إلى حكم البلاد لم يلتزموا على مدى سنوات طويلة، بتطبيق قوانين الدستور وبمعيار السيادة الشعبية، ولكن هذه الظاهرة السلبية قد سادت الجزائر منذ الاستقلال مباشرة وكان هو جزء من النظام الحاكم الذي مارسها في تلك المرحلة أيضا.
إن القضية التي لم يبرزها الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في خطابه الموجه إلى الشعب الجزائري تتمثل جوهريا في انعدام الثقافة الديمقراطية التي تحترم دستور البلاد ومعيار السيادة الشعبية لدى السلطات الجزائرية المتعاقبة على سدة الحكم منذ الاستقلال. ولا شك أن هذه المشكلة هي العقبة الأساسية التي عانت منها مسيرة المجتمع الجزائري، وهي نتاج لفشل النخب الحاكمة التقليدية في إنجاز المعمار السياسي الحداثي الذي كان ينبغي أن يتأسس على الأفكار المكوَنة لنظرية الدولة العصرية التي يشترط في تصور معالمها وأركانها ومن ثم إنجازها أن يمر بناتها بمرحلة بناء طور المجتمع، ثم بمرحلة بناء طور الدولة العادلة.
إن هذا الفشل البنيوي قد أدى ولا يزال يؤدي إلى انتشار وباء الثقافة الدكتاتورية، وبالتالي إلى غياب أخلاقيات تداول الحكم عن طريق الالتزام الصارم بالقوانين المصادق عليها شعبيا وبما يحقق معيار ما يدعى في البلدان الديمقراطية بالسيادة الشعبية.
إن زعم النظام الجزائري بأنه “لا جدال في أن الديمقراطية التعددية وحرية التعبير تشكلان اليوم واقعا ملـموسا” في الجزائر، هو أمر لا يستقيم مع معطيات الواقع حيث أن التعددية المسموح بها على مستوى العملية السياسية الجزائرية لا تتجاوز نطاق تشكيل أحزاب مجهرية أغلبها بإيعاز وتمويل من السلطات وأجهزتها المركزية والفرعية في الجزائر العميقة، أما حرية التعبير التي يروج لها خطاب النظام الجزائري فهي مجرد السماح بالكلام خارج مدارات الفعل التغييري.
في هذا السياق ينبغي تسجيل ملاحظة تكشف عن وجود مخطط مضمر للتلاعب بالسيادة الشعبية والدستور معا في المستقبل، أي في الفترة التي يتم فيها وضع اللمسات الأخيرة لبرنامج النظام الحاكم الخاص بالانتخابات الرئاسية القادمة التي يفترض أن يكون موعدها عام 2019. فبعد مضي أيام قليلة على كلمة الرئيس بوتفليقة التي وجهها إلى الشعب الجزائري بمناسبة أول نوفمبر، صرح الوزير الأول أحمد أويحيى قائلا بأنه لن يترشح لمنصب الرئيس إذا ترشح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للعهدة الخامسة وذلك في عام 2019، ويبدو واضحا هنا أن الوزير الأول أحمد أويحيى لا يمارس لعبة الكلمات المتقاطعة، بل هو يؤكد بواسطة استخدام لغة الاحتمالات والإشارات أن ترشح الرئيس بوتفليقة لمنصب الرئيس للمرة الخامسة أمر غير مستبعد فعلا، ولا يخرق في رأيه القواعد الدستورية والديمقراطية.
وفي هذا الخصوص نجد بعض المحللين السياسيين الجزائريين يميلون إلى تأويل تصريح أويحيى على أنه بالون اختبار يدخل تكتيكيا في إطار محاولة معرفة ردود فعل المعارضة والشعب الجزائري، وضمن إطار عملية سبر الآراء بشكل غير مباشر وذلك لتعبيد الطريق أمام النظام لكي يفعل ما يريد بالانتخابات الرئاسية القادمة