ظاهرة الشعوذة والدجل آفة تنخر النسيج المجتمعي
الشعوذة والدجل طرقا أبواب العاجزين والخائفين والمرضي النفسيين واليائسين والمتشائمين من مختلف الفئات الاجتماعية الجاهلة والمتعلمة والفقيرة والغنية والتقليدية والعصرية.
في قراءة موضوعية لثقافات الشعوب والأمم، في ثباتها وتطورها، في سيرورتها وصيرورتها، نلاحظ أن الشعوذة والخرافات والماورائيات عموما مثّلت جزءا مهما في حياة هذه الشعوب رغم ما شهدته الحضارة الكونية من تطوّر علمي وتقني كان نتيجة حتمية لتطوّر الأفكار وفق سياق عقلي ومنطقي وعلمي كان من المفروض أن تمّحي معه كل أصناف الشعوذة والخرافات التي تستند إلى اللاّعقل واللاّمنطق.
يتّضح بما لا يدع مجالا للشك أن الإيمان بالشعوذة والخرافات البالية له أسباب نفسية ناتجة عن الشعور بأمرين في غاية الأهمية وهما، إما الشعور بالعجز عن تفسير بعض الظواهر أو المصاعب التي تعترض الإنسان في مسيرة حياته، وإما الشعور بخوف شديد من مكروه حدث أو يُفترض أن يحدث أو يُحتمل ذهنيا حدوثه. فمهما بلغت القوّة الذهنية والنفسية للإنسان لا بدّ أن تعرف بعض الضعف والهون عند مجابهة المصاعب النفسية أو البدنية أو الفكرية عموما.
فمثلا يتأخر إيجاد الشريك المستقبلي للحياة لأسباب موضوعية في أغلبها ناتجة عن عسر في الانسجام مع الآخرين، وعن عدم القدرة عن التأقلم مع متطلبات نجاح العلاقات الاجتماعية، كالتفهّم وحسن إدارة الحوار والابتعاد عن وضع الشروط ما قبليا بمقاييس عفا عليها الزمن، وقد يكون السبب استيطيقيّا (الاستيطيقا هي علم الجمال) يتعلق بالجسم.
فالعجز عن إيجاد توأم الروح بالمعنى الغزلي والوجداني للكلمة يدفع الإنسان، وبالأخص المرأة إلى البحث عن مُيَسِّرٍ لإتمام هذه العلاقة، فيلجأ إلى من يتاجرون بنفسيات الآخرين كالمشعوذين والعرّافين وقارئي الكفوف وضاربي خيط الرمل والعزّامين..، حتى غدا الأمر سوقا تجاريا يتزاحم فيه المتزاحمون.
وقد تسوء العلاقات الزوجية ودون محاولة البحث عن الأسباب العلمية والموضوعية لتدهورها كالأنانية وحب الذات وحب التسلط وعدم التكافؤ والإهمال وغيرها من المسببات، يلجأ الزوجان أو أحد طرفي العلاقة إلى من يعتقدان أنه قادر على ترميم ما فسد، فتحضر التمائم التي يعتقدان بأنها استثناء إلهي منحه الله تعالى إلى ما يسمى بـ”المؤدب” أو “العزّام” أو “الولي الصالح”، ورغم اختلاف التسميات تبقى المهمة واحدة وهي القدرة على إصلاح علاقة الأزواج وقد ينجح الأمر “مصادفة” حين اقتناع الزوجين بأن عليهما تدارك الوضع قبل أن ينقلب إلى كارثة أسرية، بدافع نفسي، فينضاف ذلك إلى رصيد المشعوذ وبركاته وصلاحه.
أما في حالات المرض فيبدو الأمر أشبه بالهستيريا رغم تطور العلوم والتكنولوجيا والتي كان لها انعكاس مباشر على مجالات الطب والصيدلة، فالناس يتراصون في صفوف طويلة يترقّبون أدوارهم للوصول إلى “المُشفِي من كل الأمراض مهما استعصت” وكأن “الطبيب المداوي دون أن يدرس الطب أو تكون له علاقة من قريب أو بعيد بالمجال” متعدّد التخصصات والمهارات.
أما وصفات الدواء فهي عبارة عن تمائم أو أعشاب أو حيوانات وأجزاء منها أو فواكه أو مواد متعددة المصادر، يستلمها المريض وهو على يقين -على الأقل في ذهنه إذا لم يلمس تحسنا عند زيارته للطبيب أو المستشفى قبل ذلك- بأنها أصل الدواء وينفق من أجلها المال دون حساب.
الغريب في الأمر أن هؤلاء المشعوذين يفتحون محلات ثبّتت في أعلى أبوابها لوحات إشهارية لممارسة الدجل بعناوين معلومة بل يقع الإشهار أيضا في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وتدخل الممارسة في خانة التجارة دون أن يكون لهؤلاء علاقة بالدولة وبنظام الجباية، فالسلطة الإدارية والتنفيذية والتشريعية عاجزة كل العجز عن مجابهة هذه الظواهر لاستفحالها وانتشارها في المجتمعات.
والأغرب من كل ذلك أن زبائن الشعوذة والدجل ليسوا فقط من أصحاب المستويات التعليمية والثقافية الضعيفة وهؤلاء قد نجد لهم أعذارا من قبيل الجهل أو الأمية، بل هم في بعض الأحيان جامعيّون -نسبة إلى الجامعة- وفي اختصاصات علمية أيضا ومع ذلك يترددون على “محلات اللاّعلم واللاعقل واللامنطق” فبأي منطق يمكن تفسير الظاهرة إذا كانت لا تخضع للمنطق؟
البعض من طلاب العلم في الثانويات وفي الجامعات يعتقدون أن الاجتهاد والمثابرة وحدهما في الدراسة لا يفيان بالغرض المطلوب ولا يقودان إلى التفوّق والتميز فلا بدّ إذن من دافع ماورائي يدعم المجهود المبذول ويسنده لتتحقق أمنية النجاح والتميز، فيلجأون إلى العرافين وربما يختارون أكثرهم شهرة ليستلهموا منهم ما يدفعهم إلى العمل ويحقق نجاحهم.
إذن فالشعوذة والدجل طرقا أبواب العاجزين والخائفين والمرضى النفسيين واليائسين والمتشائمين من مختلف الفئات الاجتماعية الجاهلة والمتعلمة والفقيرة والغنية والتقليدية والعصرية، إنها آفة من الآفات الاجتماعية التي انتشرت وتشعبت بحيث أصبح من غير الممكن مجابهتها إلا بوعي علمي وعقلي جمعي يقف سدّا منيعا أمام انتشارها، وعلى الفئات المتشبّعة بمنجزات العلم والتكنولوجيا الحديثة أن تقود هذا الزخم لإيقاف أو على الأقل التنقيص من مثل هذه الظواهر