تحقيق صحفي لعملية تجسس المخابرات المغربية بمساعدة ضابط فرنسي
من خلال تحقيقا صحفيا عن قضية تورط نقيب بالشرطة الفرنسية يعمل بقوات حرس الحدود في مطار أورلي الدولي بالعاصمة الفرنسية باريس في عملية تجسس مفترضة لصالح المخابرات المغربية عبر شخص آخر كان وسيطا بينهما. وحاولنا إعادة بناء سيناريو القصة كاملا من خلال وقائع تحقيق القضاء الفرنسي في القضية.
تتجلى وقائع قضية تجسس نقيب بالشرطة الفرنسية يعمل بقوات حرس
و الحدود في مطار أورلي الدولي بالعاصمة الفرنسية باريس لصالح المخابرات المغربية عبر شخص آخر، في القضية التي يعمل عليها القضاء الفرنسي منذ أكثر من عام تقريبا. وبعد اطلاع الجريدة على مجريات التحقيق الحالي خرجت بصورة لما حدث تكاد تقترب من الحقيقة وفقا للعناصر والمعلومات التي حصلت عليها من الملفات القضائية. يذكر أن القضاء الفرنسي قد وضع نقيب الشرطة الفرنسي قيد الحبس الاحتياطي منذ نهاية شهر مايو الماضي.
المعلومات الأولية عن القضية تفيد بأن نقيب الشرطة شارل د. جندته المخابرات المغربية للتجسس ونقل معلومات في غاية السرية بشكل غير قانوني مقابل الحصول على امتيازات ورحلات مدفوعة المصاريف بالكامل إلى المغرب.
وتبدأ القصة في شتنبر 2014 عندما أصبح النقيب رئيسا “لوحدة المعلومات” بقوات شرطة الحدود الفرنسية العاملة بمطار أورلي الدولي الباريسي. وهذه الوحدة مكلفة بعدد من المهام الحساسة في المطار، كمكافحة الإرهاب ومراقبة الموظفين الذين ينحون إلى التطرف وكذا العمل كهمزة وصل بين سلطات الهجرة وأجهزة مكافحة الإرهاب. وتقوم تلك الوحدة بكتابة تقارير للسلطات عندما يقوم أحد المسجلين على قوائم المشتبه بهم الخطرين على الأمن الفرنسي “القائمة إس” [جواسيس، إرهابيون، مجرمون] بعبور الحدود.
من أجل القيام بمهامه على أكمل وجه يقوم النقيب شارل بالتقرب من السيد إدريس أ. مدير شركة الأمن بمطار أورلي، وهو فرنسي من أصل مغربي اعتبر النقيب أنه سيكون ذا فائدة له، خاصة أنه يملك علاقات جيدة وقنوات اتصال ببلده الأم المغرب. وفكر النقيب أن إدريس سيكون خير عون له بإخباره وتوجيه انتباهه إلى الأشخاص الخطرين القادمين من المغرب عبر مطار أورلي، وهي معلومات ثمينة ستفيده حتما في تقوية مركزه بالعمل وأمام رؤسائه. وهكذا بنى الرجلان علاقة وطيدة بنيت على الثقة المتبادلة ولكنها سرعان ما تحولت لمصلحة السيد إدريس.
يتميز السيد إدريس بالذكاء الحاد، ويصفه أحد الضباط بمطار أورلي بأنه “من ذلك النوع من الأشخاص الذي تطلب منه بعض المعلومات عن شيء ما فينتهي به الحال بمعرفة كل شيء عنك”. بينما يصفه مدير شرطة الحدود بمطار أورلي بأنه “متحدث لبق يجيد فن الحديث”. بينما النقيب شارل، البالغ من العمر 59 عاما، لا يتمتع بأي من هذه الصفات كما أنه وصل إلى منصبه هذا بصعوبة شديدة ولعدم وجود بديل له، وذلك بعد أن قضى فترة عصيبة من العمل بقسم الهجرة انتهت بتعنيف معنوي. وهذا ما استغله تماما إدريس وعرف كيف يدخل منه إلى ضابط الشرطة ويحكم سيطرته عليه تماما، وهو الأمر الذي كشفه كم الاتصالات الهاتفية بينهما، فخلال محادثاتهما التي كانت دورية وتتميز بالكثافة حتى في عطلات نهاية الأسبوع كان إدريس يطلق عليه لقب “سيدي المدير” بينما الضابط يناديه “بصديقي العزيز” أو “أخي”.
بداية التعاون
بعد ذلك يدخل شخص ثالث على الخط بين الاثنين، محمد ب. ضابط مخابرات مغربي كان على اتصال دائم بإدريس وبشكل أقل مع النقيب شارل. ويعتبر القضاء الفرنسي هذا الضابط المغربي الوجهة النهائية للوثائق التي كان يحصل عليها إدريس من النقيب شارل. ويفيد النقيب الفرنسي أثناء التحقيقات بأنه بدأ التعاون مع إدريس بعد عدة أشهر من هجمات 13 نوفمبر 2015 في باريس. وقال إنه كان يمد إدريس وضابط المخابرات المغربي بوثيقتين أو ثلاثة كل أسبوع تتضمن معلومات مهمة عن مواطنين مغاربة على علاقة بالحركات الإسلامية المتطرفة حتى تقوم المخابرات المغربية بمراقبتهم عند عودتهم إلى المغرب. وقد أثارت هذه الدائرة من الاتصالات شبهات شارل نفسه فطرح السؤال على محمد ب. قائلا “لماذا تمرون عبري ولا تتعاونون مباشرة مع المخابرات الفرنسية” فأجاب ضابط المخابرات بأنهم “لا يثقون فيهم بسبب التوتر القائم بين المغرب وفرنسا على المستوى الدبلوماسي والمخابراتي”.
ويبدو أن محمد ب. وإدريس أ. لم يكونا مهتمين فقط بالوثائق الخاصة بمكافحة الإرهاب، فبعد تفتيش الشرطة منزل إدريس وجدت وثائق وتقارير أخرى من شرطة الحدود الفرنسية عن مسؤول جزائري سابق عالي المستوي وكذا تقريرين من السفارة الجزائرية في باريس بخصوص وصول وزيرين جزائريين إلى فرنسا. وهي وثائق حصل عليها إدريس بلا شك من النقيب شارل وقال عنها إنه حصل عليها بطريق الخطأ.
بالطبع كان هناك مقابل لكل هذه الخدمات التي قدمها النقيب شارل. حصل النقيب وعائلته على دعوات مدفوعة التكاليف للسفر والإقامة بالمغرب في أكثر من مناسبة، في شتنبر 2015 و2016 وكذا أبريل 2017. تذاكر الطيران والإقامة في فنادق أربع نجوم له ولجميع أفراد أسرته. إضافة إلى رحلة أخرى إلى أنغولا كانت مقررة كهدية جديدة في يونيو 2017 لكن “لسوء حظه” تم توقيفه في 29 مايو أي ثلاثة أيام قبل هذه الرحلة.
بلاغ مجهول
فكيف توصلت السلطات الفرنسية إذن إلى خيوط هذه القضية؟
قبل أكثر من عام تقريبا تلقت المفتشية العامة للشرطة الوطنية بلاغا من مجهول في صيف العام 2016 يفيد بتلقي النقيب شارل د. هدايا على شكل رحلات مجانية للمغرب مقابل الإدلاء بمعلومات حساسة مستخرجة من ملفات “القائمة إس”. فتحت الشرطة تحقيقا داخليا بإشراف قضائي ووضع الأشخاص المشتبه بهم تحت التنصت كما تمت مراقبة حساب النقيب المصرفي وحدد مبلغ عشرة آلاف يورو كنقود سائلة أضيفت لحسابه العام 2015.
صنفت السلطات الفرنسية هذه القضية منذ البداية في خانة “سري للغاية” ووضعت عددا من الضباط الآخرين “بوحدة المعلومات” في مطار أورلي قيد التحقيق بينما استمعت لعدد آخر منهم كشهود قبل أن تقرر في النهاية ملاحقة النقيب شارل د. والسيد إدريس أ. قضائيا.
بمواجهة المتهمين بوقائع القضية ونتائج التحقيق اعترف النقيب شارل بكل شيء وأقر بأنه قام بفعله من أجل “المصلحة الوطنية العليا وللإنذار بأي عمل إرهابي محتمل”، وأنه قام بهذا العمل بناء على مبادرة شخصية منه للحصول في المقابل على معلومات ثمينة من الطرف الثاني. وأكد أن رؤساءه كانوا على علم بكل شيء بشكل أو بآخر وبأنه كان يحلم أن يصبح بطلا في الحرب ضد الإرهاب حتى لو كان ما يفعله غير قانوني.
وأكدت بلوندين روسو، محامية النقيب شارل، بأن المخابرات المغربية تعاونت في المقابل مع السلطات الفرنسية وحددت مكان عبد الحميد أباعود في فرنسا [المدبر المفترض لاعتداءات باريس]، كما أن هجوم برشلونة الأخير والذي نفذه أشخاص من أصول مغربية يظهر بشكل لا شك فيه أن التعاون مع المخابرات المغربية أمر لا مناص منه في نهاية الأمر وأن موكلها تصرف بناء على هذا الأساس من أجل مصلحة بلاده وليس ضدها. بينما علق إيف لوفانو، محامي السيد إدريس، بأن موكله عمل دائما من أجل أمن فرنسا. وتأسف أن الصراع بين أجهزة الشرطة المختلفة كان سببا في إغلاق قناة مهمة من الاتصالات بين بلدين صديقين يتعاونان معا في الحرب على الإرهاب.
ردود فعل جزائرية
هذه القضية لم تظل حبيسة الحدود الفرنسية، بل خرجت إلى الصحافة الجزائرية لتساعد في تأجيج التوتر المستعر أصلا مع المغرب. الصحافة الجزائرية اعتبرت أن تسريب وثائق ومعلومات عن شخصيات جزائرية تمر بفرنسا هو عمل من أعمال التجسس على بلادها من قبل الرباط، وأن المغرب مهتم بشكل خاص بتحركات المسؤولين الجزائريين.
ورغم مرور عدة أشهر على الكشف عن هذه القضية وثبوت تورط المخابرات المغربية فيها إلا أن السلطات المغربية التزمت الصمت تماما حيالها، ولم يدل أي مسؤول مغربي بتصريحات عن موقف المغرب من هذه القضية أو عن مدى صحة المعلومات التي وردت في التحقيقات بشأن الرباط