عصر الإرهاب دون إنترنت
تكشف العمليات الإرهابية التي ضربت مؤخرا العديد من الدول الأوروبية أن الإرهاب يسبق بخطوات خطط محاربته. فكلما زادت الحكومات من إجراءاتها الأمنية جاءت العملية الإرهابية أكثر دموية. ويعود ذلك أساسا حسب الخبراء إلى كون الجماعات الإرهابية تغير خططها وفق مسرح العملية وحسب الوضع في الجهة المستهدفة لكن الحكومات تميل إلى الرد بنفس المجموعة الضيقة من الأدوات المستخدمة لمكافحة الإرهاب. وتوضح ملابسات العملية الإرهابية التي شهدت إسبانيا مؤخرا جانبا من هذه المعضلة، حيث أنه في الوقت الذي تتكثف فيه مساعي محاربة الإرهاب عبر الإنترنت وتتركز الجهود حول متابعة ما ينشر على منصات تويتر وفيسبوك ومدونات الجهاديين، اختارت المجموعة المتورطة في عملية إسبانيا العودة إلى الطرق البدائية في التواصل والتخطيط والتنفيذ، وكشفت أن الإرهاب قد لا يحتاج إلى إنترنت أو هواتف قد تمكن مراقبتها ليضرب في عمق المجتمعات الأوروبية.
يقول الخبراء إن الخلية الجهادية التي نفذت اعتداءي إسبانيا الأسبوع الماضي تشكلت حول “معلّم” وكانت مقطوعة تماما عن الإنترنت لتجنب الوقوع في قبضة شرطة مكافحة الإرهاب. يأتي هذا الاستنتاج ويعيد قلب الكثير من الموازين في استراتيجيات الحرب على الإرهاب. ويأتي أيضا ليعيد تسليط الضوء على مظاهر قديمة ومتأصلة في العمل الإرهابي (الجهادي) مثل ظاهرة “الإخوة الإرهابيين” وتقنيات التجنيد والتخطيط، ما يمكن أن يتم أمام أعين السلطات دون أن تلحظه.
استفادت الجماعات المصنفة على قائمة الإرهاب الدولية كثيرا من الإنترنت والتطور الحاصل في مجال التواصل الاجتماعي، خصوصا في فترة ازدهار تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أرسى قواعد الإرهاب الإلكتروني واتخذ من تويتر وفيسبوك وغيرهما منصات للتجييش والدعاية والتواصل وتحريك الخلايا النائمة واستقطاب الذئاب المنفردة.
لكن ذلك لم يغن هذه الجماعات من العمل بالوسائل التقليدية خصوصا وأن التواصل عبر الشبكة العنكبوتية غير مضمون النتائج ويمكن اختراقه بسهولة. فبعيدا عن أعين الاستخبارات وسيطرة الحكومات، تمكن الجهاديون والقائمون على التنظيمات المتشددة من التواصل بسرية تامة.
ويذهب الخبراء إلى القول إن الجماعات الإرهابية ستكثف في الفترة المقبلة عملها بالطريقة التقليدية، بعد أن استفادت كثيرا من الإنترنت في نشر دعايتها ومخططاتها، والعمل في الفترة المقبلة سيكون بالتركيز على إرهاب الداخل، حيث ستتولى كل مجموعة في مكان محدد، أساسا في أوروبا، بمهمتها، وسيكون التنسيق بين أفراد الجماعة في الداخل بين الأشقاء والأصدقاء وعبر المساجد والتجمعات العائلية.
خلية إسبانيا تحاشت شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة في وقت كانت الشرطة تمشط الإنترنت
تطور الجهاد المحلي ثم الإقليمي إلى جهاد عالمي يقرع أبواب بلدان أوروبا، ويدفع بكل قوة نحو القيام بعمليات ضخمة وخلق حرب متعددة الجبهات، وهي قادرة على ذلك دون أن تستعمل الإنترنت. مثلا نجح أفراد الخلية الإسبانية في تجنب لفت انتباه السلطات إلى حد كبير. فالانفجار القوي الذي وقع في منزل كانوا تعدّ فيه قنابل في ألكانار، وحيث اكتشفت الشرطة في وقت لاحق كميات هائلة من المواد التي تدخل في صنع المتفجرات، لم يتضح في بادئ الأمر أنه من فعل متطرفين إسلاميين. ولم يتوصل المحققون إلى الربط بينه وبين المنفذين إلا بعد عمليتي الدهس في برشلونة وكامبرليس الساحلية المجاورة.
ويقول الخبراء إن السبب الرئيسي لذلك هو أسلوب تشكيل وطريقة عمل المجموعة. وتوضح لورديس فيتال، المديرة في المعهد الأوروبي للبحر المتوسط، أن “تقنيات الدعاية والتجنيد” تشبه عمل جماعة دينية مغلقة. وتشرح “يتم التشديد على دور العائلة، وعلى عزل المجموعة وانغلاقها على نفسها وتجنب كل ما يمكن أن يفشي عن وجودها”.
ويقول البرتو بوينو، من المرصد الدولي للدراسات حول الإرهاب، إن المجموعة تحاشت شبكات التوصل الاجتماعي على الإنترنت ولم تستخدم الهواتف النقالة، في وقت كانت شرطة مكافحة الإرهاب تمشط فيه الإنترنت بحثا عن بوادر تشدد بين مستخدمي الشبكة. ويضيف آلان رودييه، الضابط السابق لدى الاستخبارات الفرنسية، أن “هذا النموذج الكلاسيكي من الأشخاص الذين يعرفون بعضهم بعضا ويلتفون حول معلّم يرافق تطور الخلية، يعود إلى ما بين 15 و20 سنة”، مضيفا أنه في الوقت الذي أمضى المهاجمون أشهرا يحضرون للاعتداءين، فإن جنوحهم نحو التطرف بدأ على الأرجح قبل وقت طويل.
وعادة ما يوجد على رأس المجموعة شخص يجمع الكل حوله ويقدم الإجابات للشبان الذين يشعر الكثيرون منهم بالضياع ويفتقدون الإحساس بالانتماء وتتضارب في دواخلهم أسئلة عديدة واستفسارات كثيرة لم يجدوا لها إجابات في المحيط “الغريب” الذي يعيشون فيه.
وكان الشخص المحوري في الخلية الإسبانية الإمام المغربي عبدالباقي الساتي، الذي قتل في الانفجار العرضي في ألكانار. ويرجح ألبرتو بوينو أن الساتي عاش بشخصيتين مختلفتين بين أهالي بلدة ريبول الصغيرة حيث كان يقيم هو والعديد من المشتبه بهم. ويضيف بوينو، وهو أيضا باحث في جامعة غرناطة بجنوب إسبانيا، أن الساتي “كان يظهر وجها عندما يؤم المصلين في ريبول، ووجها آخر عند تجنيد الشباب وتشريبهم الفكر المتطرف”.