الملك في خطاب الوطنية المغربية في إطارها الأفريقي
خطاب ثورة الملك والشعب لهذه السنة كرس توسيع دائرة الوطنية المغربية عبر ربطها بجذورها الأفريقية وضِمن أفق قاري شاسع يستوعبه الإيمان بأن أفريقيا هي المستقبل بوحدة المصير بين مكوناتها.
من أدبيات التعاطي مع كل خطاب سياسي، أو غيره، محاولة فهمه والكشف عن مضامينه، قبل تحديد أي موقف منه سلبا أو إيجابا.
وليس يساعد على فهم الخطاب وكشف مضامينه محاولة مقاربته في ضوء ما لم يتطرق إليه أصلا، لأن هذا لا يحقق، بالتأكيد، أي نتيجة إيجابية في التعاطي مع الخطاب. وأقصى ما يمكن أن يقوم به هو بلورة خطاب آخر خارج الموضوع تماما. فكيف بمعاينة أن كل ما يقال خارج الخطاب المعني لا يتجاوز غمزا هنا أو لمزا هناك، أو خيبة أمل لمعاكسة انتظارات هنا أو عدم قبول أن يكون مرسل الخطاب هو المتحكم فيه وليس غيره أحيانا.
فإذا كان هذا هو الأسلوب الطبيعي والعادي في التعامل مع الخطاب الطبيعي والعادي لأي من الناس أو الباحثين، فكيف يستقيم التحلل منه ومن مقتضياته في التعامل مع خطاب سياسي استراتيجي لرئيس الدولة دون أن يكـون هذا مخلا بأبسط شروط الموضوعية والتحلل من الحرص على النزاهة الفكرية والسياسية في التعامل معه.
وبطبيعة الحال، فإن خطاب الملك المغربي في ذكرى ثورة الملك والشعب هو بطبيعته خطاب سياسي استراتيجي يحدد معالم طريق ممارسة الدولة حول مواضيع بعينها، وليس مطلوبا منه أن يأتي كشكولا من القضايا التي لا رابط بينها لا منطقيا ولا ماديا ولا ضرورة. وليس بالأمر السليم مقاربة الخطاب على قاعدة ما لم يتطرق إليه. لأن عدم الحديث عن قضايا لا يعني نفي وجودها أو التقليل من أهميتها. وهل هناك من دليل أقوى من خطاب العرش الأخير في تناول قضايا جوهرية حول واقع البلاد ومستقبلها؟ لكنه ليس مبررا كل إسقاط لاهتمامات الساعة على كل الاهتمامات بما في ذلك القضايا الاستراتيجية للوطن والدولة.
لذلك يبدو لي أن خطاب الملك محمد السادس يوم 20 أغسطس هو خطاب الوطنية المغربية بمختلف أبعادها، لأن ثورة الملك والشعب، هي ثورة الوطنية المغربية في التاريخ المعاصر في وجه الاستعمار الفرنسي. وهي نقطة تحول نوعي في تطور هذه الوطنية التي تمتد جذورها في عمق التاريخ بمختلف مراحله. ذلك أن الوطنية المغربية نضال ومقاومة وبناء مستمر، قبل أن تكون أيديولوجية قائدة لممارسات مكوناتها في هذه الفترة أو تلك. هذا ما يفسر أن الوطنية المغربية دائمة الهبات والانتفاضات عبر التاريخ تصحيحا لمسار أو إبداعا لأساليب أو لمسيرة تقطع مع البالي وتبني الجديد، مع الوعي العميق بصعوبة كل قطيعة وعدم كون الطريق ممهدة مسبقا في سبيل بناء الجديد. لكن الجدل بين هاتين الضرورتين كان قائما ويقوم على قاعدة رؤية استشرافية للمستقبل المشترك لمختلف من يحتضنهم الوطن، والالتزام بما يوحد ويجمع حتى عندما تستدعي الضرورة الانكباب على معالجة قضايا الخلاف الأساسية بين النظام السياسي وبين تيارات وقوى المعارضة بما في ذلك الجذرية منها.
حاول الاستعمار الفرنسي عام 1953 تقويض الوطنية المغربية عبر الاعتداء على الشرعية الوطنية ورمزها الأول لكنه فشل. إذ لم يصمد سلطان الحماية ولم ينفعه أكثر من طابور خامس في الصمود أمام هبّة الوطنية المغربية، حيث كان الملك محمد الخامس لا يترجم نبض الشعب المغربي فحسب، وحيث لم تكن الحركة الوطنية مشروعا بديلا للاستعمار فحسب، إنما كان محمد الخامس والحركة الوطنية التجسيد الفعلي للوطنية المغربية في ذروة إبداعها وفي عنفوان توثبها لممارسة حق المغرب في تقرير مصيره، رغم المعاناة والتضحيات الجسيمة المفتوحة أمام الوطنية المغربية وهي تقارع قوى الاستعمار وذيولها في آن معا.
إن التكالب على الوطنية المغربية اليوم ليس متمظهرا في شكل واحد، ولا يعتمد وسيلة واحدة بل يتجلى في أكثر من ممارسة، وهو يتوسل في ذلك المتاح التقليدي من الوسائل ويعمل على ابتكار أخرى تكاد لا ترى بالعين، وإنما تكشف عن نفسها من خلال تأثيرها على أكثر من وظيفة يقوم بها أطراف عديدون.
التكالب على الوطنية المغربية تجلى ويتجلى في كل محاولات عرقلة نضال الشعب المغربي في سبيل استكمال وحدته الترابية جنوبا وشمالا وشرقا. ولعل أخطر وسيلة اعتمدت في هذه المساعي مبادئ تم النضال من أجل جعلها أمرا واقعا لحماية وحدة الشعوب، لكن تم تحويلها إلى أداة لتدمير هذه الوحدة وعرقلة استكمال الشعوب لوحدتها، على شاكلة مبدأ تقرير المصير الذي تم توظيفه بشكل تعسفي ومغرض في مواجهة النضال المغربي.
وفي هذا السياق اختار الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الرابعة والستين لثورة الملك والشعب ترجمة لهذه الوطنية المغربية على المستوى الأفريقي، باعتبارها إشعاعا واختيارا جيوسياسيا في آن واحد. وليس التذكير بمراحل تفاعل المغرب مع أفريقيا عبر السنين، إلا الدليل الملموس على حرص الملك على التعامل مع التوجه الأفريقي ضمن الاستمرارية رغم كل الصعوبات والعراقيل التي ووجه بها هذا التوجه. غير أن إصرار الملك عليه وترجمته إلى شراكات واتفاقيات تعاون في مختلف المجالات مع دول أفريقيا، وبذلك استطاع إحداث الانعطافة الكبرى على صعيد الانخراط في مؤسسات الاتحاد الأفريقي الذي ليس إلا تجسيدا لوفاء المغرب لانتمائه الأفريقي. وبالتالي، فإن العودة إلى الاتحاد ليست نهاية مطاف، بل تندرج ضمن مقاربة أوسع وأشمل تنظر إلى أفريقيا باعتبارها المستقبل الذي ينبغي التعامل معه، اعتمادا على تبادل الخبرات والانخراط في مشاريع تنموية ذات نفع عميم بالنسبة إلى الأفارقة جميعا بمن فيهم المغاربة الذين هم في قلب تلك المشاريع. ذلك أن حصر التعاطي مع أفريقيا بمفردات الأموال لا يبني مستقبلا حقيقيا، وإنما هو مرتبط بمدى توفر المال أو انعدامه، والمغرب مصر على الخروج من هذه المقاربة غير الناجعة، لأنه ينطلق من أن علاقته مع أفريقيا هي علاقة وحدة مصير وليس علاقة عابرة.
إن الخطاب الملكي قد وضع تصورا قائدا لممارسات الدبلوماسية المغربية على صعيد القارة الأفريقية، انطلاقا من خلاصات تجارب الماضي والحاضر وبأفق المستقبل المنظور والبعيد للمغرب في علاقاته بأفريقيا. أفق الاندماج بشكل تدريجي ومتواصل ومتناغم الجهود والخطوات. وليس يخفى الموقع المحوري للقضية الوطنية متمثلة في الصحراء المغربية في سياق هذا التوجه، كما كان واضحا في الخطاب وهو ما يسمح بالقول إنه خطاب الوطنية المغربية ضمن إطارها الأفريقي بامتياز.
وهو ما يعني أن خطاب ثورة الملك والشعب لهذه السنة قد كرس توسيع دائرة الوطنية المغربية عبر ربطها بجذورها الأفريقية وضِمن أفق قاري شاسع يستوعبه الإيمان بأن أفريقيا هي المستقبل بوحدة المصير بين مكوناتها.