ماذا يريد الإرهابيون؟
رهانات الإرهاب المعولم اليوم أن يُترك له مجاله الخاص إلى غاية التمكين أو حتى إشعار آخر. على أننا نعيد نفس الخطأ القاتل حين نظن بأن إعادة الوحش إلى حالة الكمون، أو تلبية بعض مطالبه، مقدمة لترويضه والتقليص من شراسته.
أحد أبرز رموز السلفية الوطنية بالمغرب، الشيخ علال الفاسي، ألف كتابا مشهورا بعنوان “النقد الذاتي”.
هذا العنوان، الذي يتألف من كلمتين، يمثل العلامة الفاصلة بين السلفية الوطنية باعتبارها جزءا من حركات التحرر الوطني، وسائر فصائل الإسلام الأيديولوجي باعتبارها جزءا من حالة التردي الأخلاقي والانحدار الحضاري.
ما نلاحظه بالنظر إلى فصائل الإسلام السياسي اليوم أن أكبر همها ومبلغ علمها هو المناظرة والسجال، والرد على فلان أو علان، ثم يذهب ظنها في الأخير إلى أن النقد الذاتي مجرد خذلان في العزيمة وتفريط في المنعة، جاهلة أو متجاهلة بأن النقد الذاتي هو السُّلّم الذي ارتقته الحضارة المعاصرة صعودا من عصر النهضة إلى زمن ما بعد الحداثة، بل إلى حدود مشارف عصر ما بعد الإنسان.
تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم كما يقول غاستون باشلار بصريح العبارة، لكن ثمّة إقرار من نوع آخر، لا يمكن أن تنضج الممـارسة السيـاسية دون أخطـاء سيـاسية في الميدان، كما أكد أحد أبـرز حكمـاء الممارسة السيـاسية، لينـين (طبعـا لا نتحـدث عـن لينين “الأيديولوجي” بل لينين فن الممكن).
في كل الأحوال مقصود المقال أن نؤكد أن للأخطاء دورا إيجابيا في عملية التطور بالنسبة لكافة المجالات. هذا ما لا شك فيه، لكن، لا يكفي وجود الأخطاء بل نحتاج إلى شرط آخر، لعله الأهم. ما هو؟ لا بد من الاعتراف بوجود الأخطاء. لا بد من قدر من الاعتراف بالمسؤولية. فإنكار الشيء يجعل وجوده عديم الجدوى. غير أن ثقافتنا عادة ما تقرن الخطأ بالعار. والنتيجة أننا مثلما يتوجب علينا ستر العار، يتوجب علينا ستر الأخطاء أيضا. لذلك يندر أن نجد رئيسا يعترف بأخطائه أمام مرؤوسيه، يندر أن نجد والدا أو والدة يعترفان بأخطائهما أمام الأبناء.
مجمل القول، في ثقافتنا يصبح إخفاء الخطأ من صميم إخفاء العار. لهذا السبب بالذات لا يمكننا أن نتعلم ولا يمكننا أن نتطور. كل ما نفعله أننا نجتر الأخطاء نفسها.
مناسبة القول ما يحدث الآن، وهو يحدث كما كان متوقعا بالتمام، فقد خاب ظن من ظنوا بأن هزيمة تنظيم داعش في العراق ستترك أثرا إيجابيا على وعي حركات الإسلام السياسي والتي ستنخرط كافة لا محالة في مراجعات جدية وجذرية، وقد تنتهي إلى طرح الأسئلة الحقيقية حول طبيعة الخطاب الديني ونمط التدين السائدين، وقد تنتهي في الأخير إلى تطليق العنف والإرهاب. لقد خاب ظن من جلسوا “في انتظار غودو”.
في واقع الحال كان النقد الذاتي مرجوا منذ زمن بعيد. كان يفترض أن تظهر أولى المراجعات عقب انهيار الجهاد الأفغاني تحت نيران الفتنة الدينية التي قتل فيها المجاهدون بعضهم بعضا.
كان يفترض أن يظهر النقد الذاتي الشامل بعد أن فشلت “الثورة الإسلامية” التي أطلقها علي بلحاج في الجـزائر في تحقيق مآربها وأقحمت البلـد في جحيم عشرية الإرهاب السوداء.
كان يفترض أن تظهر المراجعة الجذرية بعد أن حـولت الحركات الجهادية الحراك السوري من ثورية شعبية إلى فتنة طائفية تحرق البلـد وتمنح طوق النجاة لنظام الأسد.
تقتضي النزاهة الاعتراف بأننا أمام تيار يكاد يكون عديم الإحساس بالمسؤولية، وبالأحرى فإنه يلقي في كـل مرة باللائمة على الآخر أو الآخرين.
إنه تيار لا يظن بأنه خطّاء كسائر البشر أو قد يقع في الخطأ مثل كافة الممارسين السياسيين، بل يرى أن الآخرين هم الذين يخطئون في حقه، يرى أن الآخرين هم الذين لم يمنحوه الفرصة كاملة، يرى أن الآخرين هم الذين لم يتركوه يعمل كما ينبغي. لكن، انطلاقا من هذه اللامسؤولية بالذات وُلدت كافة أشكال التطرف الديني.
تنظيم داعش هو ثمرة مرة لفكرة خاطئة ومضللة وكامنة في اللاوعي الجمعي للشعوب الإسلامية، وهي فكرة أن المسلمين تحت راية الإسلام كانوا سادة العالم بلا منازع، وأنهم تحت رايات الوطن والحقوق والديمقراطية وحرية المرأة، قد صاروا مستضعفين في الأرض.
وهي الفكرة التي يشيعها الخطاب الديني بمختلف مستوياته الرسمية والشعبوية، إنه ثمرة الجهل بالتاريخ، لكنه أيضا ثمرة قلب رهيب في منظومة القيم. كيف؟
في تاريخ الحروب كلها كان كل طرف يعتبر انتصاره مجرد وسيلة لأجل استعادة الأمن والأمان.
كانت كل حرب تستمد مشروعيتها من فرضية أنها الحرب الأخيرة، الحرب التي ستنهي كل الحروب. ما يعني أن الانتصار في تاريخ الحروب كان يُقدّم كوسيلة لتحقيق السلام النهائي والأخير.
هـذا بالضبط ما كان يفتح البـاب أمام إمكانية تفادي الحرب أو إيقافها إذا ما استطاع الطـرف الأقوى تحقيق الغاية من دون العبور عبر الانتصار العسكري المكلف. لم يكن يُنظر إلى القتال كغاية بل مجرد وسيلة.
هذه المرة نجد أنفسنا أمام محارب أيديولوجي لا يعتبر انتصاره شرطا لأي سلام دائم، بل يعتبر القتال غاية في ذاته. نحن بالأحرى- وهنا تكمن خطورة الموقف- أمام طرف يعتبر القتال غاية الغايات.
لقد جاء في أدبيات الإخوان المسلمين “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”. ما يعني أن حالة الاستنفار والجاهزية للقتال “في سبيل الله” هي الحالة الطبيعية للإنسان المسلم.
لذلك لا غرابة أن تكون مفاهيم الإسلام السياسي عسكرية بالأساس: اللواء، الجماعة، البنيان، البيعة، الاحتراب، التدافع، الغزوات، الولاء، الشهادة، الجهاد، التمكين، إلخ.
وكما كـان يقـول عبدالسلام فـرج فإن “كتب عليكم القتال” تُفهم قياسا على “كتب عليكم الصيام”، كلاهما فرض عين على المسلم. حين يكون القتال هو الوضع “الطبيعي” يصبح السلام مجرّد هدنة “غير طبيعية”.
بهذا النحو، لا يضع الإرهاب على العالم تحديا أمنيا وحسب، وإنما يضع عليه تحديا سياسيا كذلك:
هل العالم مستعدّ لهدنة غير معلنة تضمن غض الطرف عن تصريف الأيديولوجية القتالية داخل بعض المناطق مقابل الأمن في بقية العالم، ولو إلى حين موعد آخر من مواعيد التمكين؟ هذا هو التحدي الذي يطرحه الإرهاب على العالم اليوم.
بالجملة فإن رهانات الإرهاب المعولم اليوم أن يُترك له مجاله الخاص إلى غاية التمكين أو حتى إشعار آخر. على أننا نعيد نفس الخطأ القاتل حين نظنّ بأن إعادة الوحش إلى حالة الكمون، أو تلبية بعض مطالبه، هي مقدمة لترويضه والتقليص من شراسته؛ ذلك أن ما يريده الإرهابيون من القتال هو القتال نفسه، بل لعله القتل على وجه التحديد أو من باب الترجيح.