الأجيال السابقة.. لماذا فعلتم بنا ذلك؟
ضرب الإرهاب في برشلونة، لكن أين سيضرب بعد ذلك؟ هذا هو السؤال الآن. سيجفّف الناس دموعهم، وسيدفنون موتاهم، وسيجلسون في انتظار الهجوم القادم. نعم، طالما أن أوروبا مصرّة على “عدم” محاربة الإرهاب فلماذا يتوقف؟ طالما أن جماعات الإسلام السياسي تقلب منطقتنا رأسا على عقب، ثم تذهب لأخذ قسط من الراحة في أوروبا، فسيأتي اليوم الذي ترى فيه الدول الأوروبية نفس مصائرنا. الأمر مسألة وقت لا أكثر. هجوم برشلونة هو تنبيه لما يجب على الأوروبيين فعله، لكن هل يلتقطون الخيط؟
إراقة دم الأبرياء من جديد
نعم كان الهجوم الإرهابي على إسبانيا مفاجئا وغير متوقع. لكن الذعر الذي صاحب الحادث أكثر مفاجأة. لماذا لم يقتنع الناس بعد بأن الإرهاب هو مشكلة جيل كامل يدفع أخطاء الجيل الذي قبله؟ من يعيشون اليوم هم ضحايا أناس لم يعودوا موجودين بيننا. ثمة سؤال يلح على أدمغتنا جميعا طوال الوقت، وكنا نتمنى أن نوجّهه لكل من كانوا يتحملون المسؤولية سابقا: ماذا كنتم تظنون وقتها أنكم فاعلون؟
ماذا كان يدور في عقول هذه الأجيال حيال جماعات الإسلام السياسي؟ هل وصل التاريخ الطويل من التطور البشري إلى هذا المستوى من اللافائدة؟ هل تجارب أوروبا في العصور الوسطى، وفلسفة الكهنوت وحكم رجال الدين، والقمع والصلب والحرق لم تعلّمنا أن نبقي العفريت في المصباح، بدلا من تحضيره؟
لا يوجد أي مبرر لدى الأوروبيين كي يقدموه. الفرصة كانت أمامهم طوال الوقت وأضاعوها. الخلل بنيوي وليس تقنيا أو سياسيا فقط. الأوروبيون لا يريدون أن يقتنعوا بأن حادثة الدهس في برشلونة، وقبلها سبع هجمات دهس مشابهة في أنحاء متفرقة من أوروبا، هي نتاج إخفاق الحضارة الغربية في تحمّل عبء انهيار حضارة أخرى مجاورة.
الإرهاب سلاح الفقراء الجديد
في النهاية يبدو أننا قد وصلنا إلى منتصف الطريق، وأننا سنعيش مع هذه الظاهرة لعقود. الأمر يشبه تعايش البريطانيين مع عمليات جيش التحرير الأيرلندي خلال الثمانينات والتسعينات.
في كل يوم تقريبا كان يتم إطلاق نداء تحذيري في قطارات الأنفاق عن قنبلة في المحطة المقبلة. لم يفعل البريطانيون وقتها سوى الترجّل خارج المحطة والبحث عن وسيلة مواصلات بديلة في هدوء. الناس اخترعوا طريقة جديدة للعيش لا تتعارض مع ما كان حينها طابعا جديدا ويوميا من التهديد.
هذا يتكرر اليوم في دول عربية عدة. خذ مثلا مصر و سوريا . المصريون صاروا أصدقاء القنابل والسيارات المفخخة. بمجرد تجمع رجال المفرقعات حول عبوة ناسفة زرعت في أحد شوارع القاهرة، تجد الناس يتحلّقون حولها وكأنهم يشاهدون عرضا مسرحيا ممتعا. لم تعد القنابل تمثل عائقا حياتيا لهم. مؤخرا وجد أحدهم قنبلة في منطقة شعبية، فوضعها في دلو فارغ وحملها إلى قسم الشرطة!
القنابل والمفرقعات في شوارع القاهرة و بغداد صارت هي السيارات في شوارع لندن وبرلين وباريس ومدريد وبرشلونة. هذه السيارات المجهولة، التي لا تدري من أين ستخرج عليك، يسمّيها الكاتب البريطاني الكبير سايمون جينكينز “صواريخ الفقراء الموجّهة”.
كلفة هذه الأسلحة الجديدة بسيطة فعلا قبل التنفيذ، لكن بعد التنفيذ الكلفة عادة ما تكون باهظة. الدور يوم الخميس كان على برشلونة. من يعلم أي مدينة سيأتي عليها الدور لاحقا؟ الذي نعلمه حقا هو أن الدور آت لا محالة.
إذا لم تصاحب الحرب الأمنية استراتيجية فكرية فعالة، فستنتهي إلى لا شيء. بعد مرور 20 أو 30 عاما من الآن سنجد أنفسنا أمام 20 أو 30 عاما أخرى من الإرهاب، ونعيد الكرة من جديد
الأوروبيون يعرفون ذلك جيّدا بدرجة تستطيع بسهولة أن تراها في الشوارع والميادين. في لندن مثلا ثمة حواجز بدأت في الانتشار حول المناطق السياحية والمؤسسات الهامة تدريجيا. الأمر يشبه استعداد جيش لإقامة معسكر دائم في منطقة ما.
هذه الحواجز تؤثر بشكل مباشر على حياة الناس اليومية، بنفس القدر الذي تؤثر به الرغبة الملحّة لدى أجهزة الأمن بالتجسس على الأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية على حياتهم أيضا. الأمن يريد إقامة حواجز في العالم الحقيقي، وهدم كل الحواجز في العالم الافتراضي.
هل سيوقف كل ذلك التهديد؟ بالطبع لا.
ورطة الغرب
مشكلة الغرب أن ليست لديه أي استراتيجية لمحاربة الإرهاب. الغرب يرى نفسه رقم 2 في معادلة الإرهاب الصعبة. رقم 1 هو العالم الإسلامي. الاعتماد على المؤسسات الدينية والحكومات في العامل الإسلامي يعني عمليا أن الغرب يستند إلى حائط مائل.
في الدول الإسلامية، ثمة مؤسسات دينية كبرى رفضت إطلاق قنوات فضائية لدحض التطرف ببساطة لأنها ليس لديها ما تقوله. رجل الدين الذي من المفترض به أن يرد على فتاوى داعش بحجة مضادة، يؤمن داخله بأغلب هذه الفتاوى المتشددة المطالب بالرد عليها.
من أين يأتي إذن بآراء مغايرة طالما أن كل ما تعلمه، ومازال يقرأه، يقوده حتما إلى معسكر داعش الفكري. كثيرون داخل الأزهر مثلا مازالوا يتحدثون بلغة تبدو لغة الإخوان المسلمين أو القاعدة معتدلة مقارنة بها.
هذا انعكس على الغرب ووضع الحكومات هناك في ورطة أكبر. الحكومات الغربية هي في النهاية حكومات مسيحية. حقيقة اختلاف العقائد تسحب منها شرعية الحديث عن تطوير الفكر الإسلامي أو تحديثه.
إذا كانت الحكومات في العالم العربي تستطيع الضغط على الأزهر في مصر أو هيئة كبار العلماء في السعودية أو أي دار إفتاء رسمية في أي بلد آخر، فبريطانيا وفرنسا وإسبانيا لا تستطيع فعل الشيء نفسه. النتيجة هي أنه لا يوجد مسجد أو زاوية صلاة واحدة في أوروبا تعمل على نشر الفقه الإسلامي الحديث.
لم يعد الأمر مرتبطا بـ”الاعتدال”. علينا أن نتوقف تماما عن استخدام هذا المصطلح الذي صار مبتذلا. الجميع يكافح من أجل أن يثبت أنه أكثر اعتدالا من الآخر. الأزهر يريد سرقة الاعتدال من الإخوان المسلمين، والإخوان يكافحون لإثبات أنهم أكثر اعتدالا من القاعدة، والقاعدة تسعى لغسل صورتها “الأكثر اعتدالا” من داعش.
دعك من كل هذا الالتباس. القضية الحقيقة الآن هي أن هناك فقهين إسلاميين، أحدهما قديم صار جزءا من تاريخ تطور الفكر الإسلامي، والآخر حديث أكثر فاعلية واتساقا مع أبعاد الحياة اليومية في زمننا المعاصر.
بلد مثل إسبانيا لا يبدو أنه قد فهم المعادلة الأيديولوجية بعد. في العام الماضي سمحت إسبانيا للمؤسسة الإسلامية للتعايش والاندماج، الذراع الرسمية لتنظيم الإخوان المسلمين، بافتتاح أول مدرسة لها لتدريس أفكار الإخوان لأكثر من 800 طالب.
ما تفعله إسبانيا اليوم ليس أكثر من تكرار أخطاء بريطانيا وفرنسا وألمانيا في تسعينات القرن الماضي. الفرق هو أن الأمر لن يستغرق طويلا كي يصل إلى الذروة كما حدث في باقي الدول الأوروبية. أجهزة الاستخبارات باتت تتحدث بالفعل عن ألف جهادي تحت الرقابة في إسبانيا.
كل هذه الحقائق تقول إن على أوروبا أن تتوقف عن خداع نفسها وأن تبدأ في الدخول في صلب الموضوع. هناك حرب طويلة ومعقّدة لعقود قادمة. إذا لم تصاحب الحرب الأمنية استراتيجية فكرية فعالة، فستنتهي إلى لا شيء. بعد مرور 20 أو 30 عاما من الآن، سنجد أنفسنا أمام 20 أو 30 عاما أخرى من الإرهاب، ونعيد الكرة من جديد.
في بداية التسعينات لم تر الأجيال التي سبقتنا هذا المستقبل الذي نعيشه نحن اليوم. علينا أن نرى نحن المستقبل الذي سيعيشه أبناؤنا بدورهم، أو نتوقع منهم نفس الأسئلة التي نطرحها نحن اليوم على من سبقونا.