محمد بوضياف الرجل الذي استفاد من اغتياله الإسلاميون وزمر الفساد

تفاصيل جريمة اغتيال رئيس الجزائر الأسبق محمد بوضياف متخفية في رفوف عدة جهات بسبب تشعب وتمييع القضية لغايات سياسية.

 

محمد بوضياف جريمة سياسية يمر عليها ربع قرن دون الكشف عن حقيقتها

في التاسع والعشرين من يونيو الماضي، يكون قد مر ربع قرن على جريمة اغتيال رئيس الدولة الجزائرية  والمناضل التاريخي محمد بوضياف، دون معرفة الحقيقة التي طمست في رفوف قيادات أجهزة الجيش والأمن والقضاء، لتبقى بذلك الجزائر تبحث عن جواب للسؤال الذي طرحه الرجل ذات يوم، “الجزائر إلى أين؟”، وتتحول جريمة الاغتيال إلى جزء من السؤال، خاصة وأن نجله ناصر أضناه البحث وقرر الكف عن تقفي الحقيقة في متاهات تتعمد طمس معالم الجريمة.

العدالة الجزائرية

قرر نجل رئيس الجزائر  الراحل محمد بوضياف في الذكرى الخامسة والعشرين لاغتيال والده التخلي عن القضية التي رفعها السنة الماضية لدى القضاء الجزائري ضد أربعة من جنرالات الجيش والمخابرات للبحث عن الحقيقة بسبب ما أسماه بـ”عدم تقدم الملف وصعوبة الحصول على تفاصيل جديدة يمكن تقديمها للقضاء”.

وصرح لوسائل إعلام جزائرية بأنه “فقد الأمل في العدالة الجزائرية وأن حقيقة اغتيال والده لا يمكن أن تظهر إلا بعد زوال هذا النظام”، وهي إشارة صريحة لتشعب وتمييع القضية في تفاصيل متعبة، من أجل إنهاك جهود التحقيق، خاصة وأن بعضا من المستفيدين من الجريمة لا زالوا على قيد الحياة، وفي مواقع قوة ونفوذ في السلطة.

تبقى بذلك جريمة الاغتيال التي تمت في وضح النهار وفي قاعة تغص بالحاضرين في الـ29 من يونيو 1992، بمدينة عنابة، شرق الجزائر، في رقبة الملازم بومعرافي لمبارك، المحكوم عليه بالإعدام غير المنفذ، والقابع بأحد سجون العاصمة، ولتبقى معه فرضية القوى العقلية للجاني، أو رغبته في الانتقام للإسلاميين والدولة الوطنية، هي القائمة لحد الآن، لأن الجاني حقق أمنيته في الانتقام من رمز نضالي تاريخي، استقدم لإنقاذ الجزائر من الانهيار، بعد إلغاء العسكر للمسار الانتخابي الذي اكتسحته في 1991 جبهة الإنقاذ الإسلامية، وتحول في ظرف قصير إلى مصدر قلق حقيقي للإسلاميين وللزمر الفاسدة المتغلغلة في السلطة.

لجنة التحقيق التي نصبت فور وقوع الجريمة السياسية لم تستطيع الوصول إلى أيّ نتيجة أو حقيقة، غير ما يسوّق له عبر فرضية الملازم بومعرافي لمبارك، وحتى الاستجوابات التي أجرتها مع كبار ضباط الجيش والاستخبارات والأمن، ومسؤولين سياسيين، لم تفض إلى شيء يكشف أبعاد وخلفيات الجريمة والمدبر الحقيقي لها.

وقد صرح مؤخرا عضو لجنة التحقيق الجزائرية ورفيق الراحل الطيب الثعالبي في الذكرى الخامسة والعشرين بأن “التقرير النهائي للتحقيق في قضية اغتيال بوضياف لم ينشر، ولم يتعرف الرأي العام على محتواه، وقد سلم لرئيس مرصد حقوق الإنسان الجزائري آنذاك، والمستشار الحالي للرئيس الجزائري المكلف بملف حقوق الإنسان عبدالرزاق بارا”.

وتمسك المتحدث بتوجيه أصابع الاتهام للنظام بالوقوف وراء اغتيال الرئيس بوضياف، إلا أن الأدلة غير متوفرة لتأكيد من المسؤول عن ذلك بالضبط.

 

الرئيس الجزائري بوضياف ما تزال تنقل عنه قولته الشهيرة “بحثت عن ستين نزيها فأتوا لي بستين لصا”
يقول مراقبون إن جريمة اغتيال بوضياف استفادت منها عدة جهات على غرار الإسلاميين الذين تعرضوا منذ وصوله إلى الجزائر في يناير 1992 لإجراءات أمنية مشددة، حيث فتحت محتشدات أمنية في عمق الصحراء لتحييد مناضلي وأنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ والحيلولة دون تأجيج الوضع السياسي والأمني في العاصمة الجزائرية  والمدن الكبرى بعد إلغاء المسار الانتخابي، بالإضافة إلى زمر الفساد المتغلغلة في مفاصل الدولة.

ويضيف هؤلاء بأن قوى الفساد استشعرت قلقا حقيقيا من التحول الذي أبداه بوضياف بعد أشهر من قدومه، حيث قرر إعادة محاكمة اللواء مصطفى بلوصيف وفتح تحقيق في ملفات فساد كبيرة، وكان أبرزها ما عرف آنذاك بقضية “الحاج بتو”، وهو البارون الذي كان يستغل نفوذه وشراكاته المتنوعة في ممارسة نشاط اقتصادي مواز على الحدود الجنوبية ويتعامل مع مؤسسات وحكومات بعينها خارج رقابة الدولة المركزية.

ويذكر عنه في هذا الشأن قولته الشهيرة “بحثت عن ستين نزيها فأتوا لي بستين لصا”، في إشارة لعملية اختيار ما عرف في مطلع التسعينات من القرن العشرين بأعضاء المجلس الوطني الانتقالي الذي كان ينوي الراحل توظيفه لملء الفراغ البرلماني ومساعدته على سن القوانين التشريعية، حيث فشل أو تعمد المنقبون في العثور على شخصيات نزيهة وفق ما كان يتمناه الرجل.

هذا فضلا عن بعض القوى السياسية التقليدية المستفيدة من مزايا السلطة التي شعرت بخطر انفتاح الرجل على الشارع الجزائري عبر خطاب قومي متجدد، تمهيدا لإطلاق قوة سياسية وهي “التجمع الوطني”، بغية التخلص من هيمنة الإسلاميين على عقول الجزائريين من جهة، وسحب البساط من القوى التقليدية المرتبطة بالفساد.

 

من يسجن الحقيقة

ستظل تفاصيل الجريمة متخفية في رفوف عدة جهات أبرزها وزير الدفاع  الجزائري الجنرال خالد نزار ومدير جهاز الاستخبارات الجزائري  المقال الجنرال محمد مدين وحكومة سيد أحمد غزالي وما عرف آنذاك بالمجلس الأعلى للدولة، وهي الجهات التي تدبرت أمر إقناع الرجل بالعودة من حياته ومصالحه العائلية والخاصة بمدينة القنيطرة المغربية، وأمر تأمين الحراسة الشخصية والجسدية للرجل الأول للدولة.

لجنة التحقيق التي نصبت فور وقوع الجريمة السياسية لم تستطع الوصول إلى أي نتيجة أو حقيقة، غير ما يسوق له عبر فرضية الملازم بومعرافي لمبارك الجاني السجين، وحتى الاستجوابات التي أجرتها مع كبار ضباط الجيش والاستخبارات والأمن، ومسؤولين سياسيين، لم تفض إلى شيء يكشف أبعاد وخلفيات الجريمة والمدبر الحقيقي لها
وعاد عضو لجنة التحقيق ورفيق الراحل الطيب الثعالبي في تصريحه إلى استحضار ظروف استحداث لجنة التحقيق بعد اغتيال محمد بوضياف، حيث قال “تم توزيع المهام على الأعضاء الستة للجنة التحقيق بقيادة المرحوم بوشعيب. وبعد تأدية اليمين اقترحت بلحسين ليكون رئيسا للجنة فرفض، واقترحوني أنا فرفضت، وبعدها أقنعت بوشعيب أن يكون رئيسا باعتباره الأكبر سنا، وكان من بين الأعضاء مختصون في القانون والجرائم، وأنا كنت حاضرا كصديق وكمناضل عمل مع الراحل”.

ويضيف الثعالبي إن “التقرير النهائي تم تسليمه لرئيس مرصد حقوق الإنسان عبدالرزاق بارا، ولا نعلم مصيره، إذا كان سلمه للمجلس الأعلى للدولة أم لا، وأبرز ما جاء فيه أن عمل الاغتيال ليس عملا فرديا، وأن حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية أكبر المستفيدين من اغتياله، إلا أن مدبر اغتياله هو النظام”.

ويتابع عضو لجنة التحقيق أن “الجنرال خالد نزار وافقني على نشر التقرير النهائي للرأي العام، إلا أن أعضاء اللجنة فضلوا عدم نشره ومنحه للمجلس الأعلى للدولة”. يذكر أنه خاطب أحد أعضاء اللجنة بالقول “إن جهاز المخابرات هو من اغتال بوضياف”، فردّ عليه “إذا أردت أن تقتل النمر لا بد أن تصوب نحو جبهته وإلا فسيفترسك”، وقصده من ذلك “إذا كان لديك دليل وبيّنة فتقدم وإذا لم تملك شيئا فاصمت”، فضلا على أنه كان يخاطب أحيانا مقرر اللجنة عبدالرزاق بارا “أخشى أن يكون عملنا داخل مقر جنان الميثاق محل تنصت”، في إشارة لظروف عمل اللجنة وعيون جهاز الاستخبارات المركزة على مبنى عملية التحقيق.

وقد بات من المؤكد، اليوم، أن اللجنة استمعت إلى شهادات وإفادات لشخصيات سياسية وضباط سامين في العسكر والمخابرات، على غرار مدير المخابرات الجزائري  المقال الذي عرف بـ”توفيق” ونائبه الجنرال الراحل إسماعيل العماري ووزير الدفاع الجنرال خالد نزار ومدير ديوان الرئاسة الراحل العربي بلخير ورئيس الحكومة السابق سيد أحمد غزالي، ولكنّ ذلك لم يفد شيئا في الوصول إلى فك ألغاز الجريمة.

وتم الكشف، مؤخراً، عن أن محاميا أجنبيا يعمل على فتح الملف من جديد، اتصل بالثعالبي خلال الأشهر الأخيرة، من أجل مساعدته في القضية، إلا أنه لا يتوقع له الوصول إلى شيء.

يعد بوضياف من الرعيل الأول، الذي دبّر لتفجير ثورة التحرير الجزائرية العام 1954، وهو من القادة الستة الذين أعلنوا انطلاق الثورة، ومن الخمسة الذين اعتقلتهم السلطات الفرنسية العام 1955 بتحويل الطائرة التي يستقلونها من المغرب إلى سويسرا نحو الجزائر، وسجنتهم إلى غاية حصول البلاد على استقلالها الوطني. ويعتبر إلى جانب رفيقه الراحل حسين آيت أحمد من التيار الديمقراطي التعددي الذي لقي رفض توجهات الرفاق الآخرين كأحمد بن بلة ومحمد خيضر في بداية الاستقلال.

 

آخر الكلمات التي نطق بها بوضياف قبل اغتياله كانت “الأمم اللي فاتتنا (التي تقدمت علينا)، باش فاتتنا (بماذا تقدمت)؟، فاتتنا
وقد سارت توازنات الصراع في ذلك العصر لصالح الفريق الثاني الذي استعان بالجيش لإرساء دولة أحادية، وهو ما دفع بوضياف وآيت أحمد إلى التمرد على التوجه السياسي الجديد، وأسسا حزبيهما السياسي في السرية “الثورة الاشتراكي” و”جبهة القوى الاشتراكية”، قبل أن يخلد الرجل لشؤون العائلة الخاصة في مدينة القنيطرة المغاربية، ومصدر رزقه “مصنع الآجر” منذ بدايات الاستقلال إلى غاية العام 1992.

 

وفاق مع العرش المغربي

وتذكر المصادر أن بوضياف يعد من الشخصيات السياسية القليلة التي كانت على وفاق مع الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، وكان من المساندين القلائل لما يعرف بالمسيرة الخضراء العام 1975، وهو ما شكل مصدر غضب دائم من السلطات التي تعاقبت على حكم الجزائر.

وتضيف نفس المصادر بأن ا المغفور له  الحسن الثاني كان في غاية الابتهاج لما أعلمه بوضياف عن فحوى الاتصالات التي أجريت معه من طرف شخصيات سياسية وعسكرية جزائرية لمسك مقاليد الدولة بعد الفراغ الذي تركه إلغاء المسار الانتخابي واستقالة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في يناير 1992.

وقد قضى صاحب سؤال “الجزائر إلى أين؟ ” وشعار “الجزائر قبل كل شيء” عن عمر يناهز 73 عاما، وهو في منصة قاعة دار الثقافة بمدينة عنابة، يلقي خطابا اختير له أن ينقل مباشرة على التلفزيون الحكومي، فكان الاغتيال على المباشر وعلى الساعة العاشرة صباحا بعد أن أفرغ في ظهره ورأسه وابل من الرصاص تركه مضرجا على المنصة في دمائه، وكان آخر الكلمات التي نطق بها قبل أن يلتفت برأسه إلى مصدر الصوت القادم من خلف الستار “الأمم اللي فاتتنا (التي تقدمت علينا)، باش فاتتنا (بماذا تقدمت)؟، فاتتنا بالعلم. فاتتنا بالعلم”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: