عربيات مهاجرات: الكرامة في الغربة وطن
الصعوبات والمشاكل التي تواجهها المرأة تكاد تتشابه في كل مكان من العالم، وإن اختلفت حدّتها من مجتمع إلى آخر، غير أن النساء المهاجرات يواجهن تحديات أخرى منبعها الأوطان البديلة، وأحيانا تحديات تتعلق بالحنين إلى الوطن الأم.
تنتاب العديد من النساء المغتربات مشاعر منشطرة وقاسية بشأن علاقتهن بالمحيط الجديد وانجذابهن للبلد الأصلي ممّا يجعل الكثيرات لا يشعرن بطعم الحياة وعاجزات عن التكيف مع مبادئ بلدان المهجر وقيمها الغريبة عنهن.
ولا تتخلص في الغالب من تلك المشاعر المؤذية حتى النساء اللائي يعشن وسط أسرهن وبوضع مالي مستقر، بسبب وقع الغربة القاسي على النفوس، والتشتت في الولاء للوطن الأمّ أم للوطن البديل الذي وفر لهن الحرية والكرامة والحياة المستقرة، من دون أن يعني ذلك بالنسبة إليهن الاطمئنان التام.
ولا يختفي الإحساس بالغربة أحيانا حتى عند النساء اللائي آثرن الاستقرار في المهجر منذ عقود طويلة، وينعكس ذلك على طبيعة حياتهن ونومهن وعلاقتهن بأقرب الناس إليهن.
ومع ازدياد عدد المغتربين العرب في الخارج منذ عقد سبعينات القرن الماضي، ولد أكثر من جيل يحمل معه حزمة أسئلة عن أصول آبائه التي قد تمثل أحيانا حاجزا يحول دون اندماجه بمجتمعه الذي ولد فيه وعاش.
وتشتد وطأة الغربة على النساء أكثر من الرجال، بسبب طبيعة المرأة العربية المتآلفة مع محيطها الاجتماعي، ولذلك عندما تجد البعض منهن نفسها في مجتمع جديد تواجهها صعوبة في غرس جذورها في بلدان غير بلدها الأصلي.
وتتصارع داخل نفسية المرأة العربية المغتربة محاذير وسلوكيات اجتماعية وأخلاقية، حول طبيعة حياتها السابقة وكيفية اندماجها في المجتمع الجديد، بالإضافة إلى الضغوط الأسرية والمجتمعية التي كثيرا ما تطلب من المرأة العربية أن تتشبث بأصلها وفي الوقت نفسه أن تتأقلم مع تقاليد وثقافة المجتمع الذي تعيش فيه.
ويفاقم هذا الصراع النفسي من القلق وقد يصل الأمر في أحيان كثيرة إلى حد الإصابة بالاكتئاب وتضخم الشعور بالعزلة، مما يجعل تجربة الغربة صعبة وتنطوي على الشعور بالوحدة.
واتفقت العديد من الدراسات التي حلّلت وضع المغتربين أنهم يشتركون في أعراض نفسية مثل الكوابيس أثناء النوم والتحدث مع النفس بصوت مسموع، فضلا عن أحلام اليقظة التي تعود بهم إلى حياتهم السابقة.
وتزيد صعوبة الحياة وسرعة وتيرتها من صعوبة حياة المغتربة، خصوصا عندما لا تجد من يقف إلى جانبها ويشد من أزرها كما كان يحدث في بلدها عندما كان الأقارب والأصدقاء يحيطون بها في السراء والضراء.
وحققت نسبة كبيرة من النساء العربيات المغتربات نجاحات باهرة ومتميزة في الدراسة وفي الحياة العملية والأسرية، ولكن الكثيرات منهن ما زلن عاجزات عن الشعور بالانتماء، وينتابهن إحساس بأنهن غريبات فيما يفترض أنه قد أصبح وطنهن وهن يحملن جنسيته.
على الرغم من أنه ليس من الصعب على أيّ شخص الاندماج والتكيف مع الواقع الجديد للبلد الذي يعيش فيه من خلال القطع مع الماضي والتشبث بالحاضر، إلا أن البعض من المغتربات يشعرن أن الزمن قد تحرك وتركهن خلفه، وأنهن الوحيدات اللائي ما زلن أسيرات للماضي. ووصفت لقاء يوسف (مدرسة رياضيات) البريطانية من أصول عراقية تجربتها التي تجاوزت الثلاثين عاما في الغربة، بأنها مؤلمة رغم حلاوة الحياة ورغد العيش والأمان والاستقرار الذي تشعر به في لندن.
وقالت “لم يكن المهجر بالنسبة إليّ مجرّد حلم بالعيش في بلد يحترم الحرية الشخصية ويراعي حقوق الإنسان، بقدر ما كان الدافع إليه الرغبة في الحياة؛ ففي بلدي الأصلي الحكم بالموت خيار حتمي ولا مفرّ منه على أيّ ناشط حقوقي أو معارض سياسي، وواقع حقوق الإنسان قاتم، بل والأشد قاتمة منه واقع المرأة بشكل خاص”.
وأضافت يوسف لـ”العرب” قائلة “المهجر أخذ منّي عراق الطفولة والشباب بحلاوته ومآسيه وحوّله إلى ذكريات مؤلمة، حتى الجميل منها أصبح تذكّره مؤلما، المهجر فصلني عن كل شيء قديم وجديد هناك”.
وتابعت “عندما أتحدث أحيانا عن ماضيّ في بلدي الأصلي أشعر أنه لا يخصني، بل هو قصة مستوحاة من واقع مرير لشخص آخر لا أعرفه ولا يعرفني، ولكني عشت بطريقة ما تجربته، وها أنا أسردها على مسامعكم الآن”.
واسترسلت يوسف في حديثها المشحون بالحنين عن بلدها الأصلي الذي أصبح جزءا من الماضي، إلا أنه ليس من السهل عليها القطع معه، ولكنها بدت أكثر تمسكا بوطنها الجديد بقولها “بريطانيا أعطتني الحياة والحرية والوطن كما يجب أن يكون، ومنحتني الكرامة، واحتضنتني بكرمها وفتحت لي أفق التطور الفكري والتعايش الإنساني السلمي مع أجناس وجنسيات مختلفة”. وختمت يوسف بقولها “لا أنكر أن الحنين إلى الماضي البعيد يعاودني من حين إلى آخر، ولكن لا خيار آخر سوى تركه على الرّف والتركيز على الواقع الجديد بكل ما فيه من مستجدات وصعوبات”.