أسواق الكتب المستعملة في المغرب.. المعرفة على قارعة الطريق

يروج البعض لانتهاء عصر الكتاب الورقي بل منهم من يتوقع موته بعد سنوات قليلة، لكن أسواق الكتب المستعملة في المغرب تنفي هذا الاعتقاد، لأنها تزدهر في الموسم الدراسي والامتحانات الجامعية والمدرسية حتى أصبحت هناك معارض تتزين بأرقى الكتب والمؤلفات الأدبية والعلمية والمخطوطات التي تجذب صنفا مميزا من عشاق الكتب، الذين يدركون قيمة الكنوز التراثية والثقافية والعلمية التي تحتوي عليها الأسواق والمعارض التي تعرض الكتب التي قد يعود تاريخها أحيانا إلى سنوات وعقود خلت.

لأسواق الكتب المستعملة في الدول العربية أسرارها وسحرها وجمهورها وباعتها المعروفون، الذين يقصدهم زبائنهم من مختلف البلدان العربية الأخرى، وخصوصا من بلدان الخليج العربي، لغرض اقتناء كتب قديمة ونادرة.

ومهما قيل عن انحسار بيع الكتاب الورقي، فتلك محض أقاويل لا تسندها الوقائع اليومية في معظم أسواق بيع الكتب المستعملة في الوطن العربي.

ويبدو ذلك واضحا من خلال رؤية الجمهور الكبير من الباحثين عن الكتاب المستعمل، لمختلف الأغراض الثقافية أو الدراسية أو لأسباب لها علاقة بالذائقة الشخصية. فللبعض ذائقة تدفعهم للبحث عن الكتاب القديم والمستعمل، لشرائه والاحتفاظ به في مكتبة البيت مع باقي النفائس القديمة، التي تم تجميعها من أسواق شتى، خلال سنوات عمر عاشق الكتب القديمة.

ومن الأسواق الشهيرة للكتاب المستعمل في مصر، سوق الأزبكية بمنطقة العتبة بالقاهرة، وفي الإسكندرية سوق الكتب بشارع النبي دانيال، وفي بغداد سوق شارع المتنبي بباب المعظم.

وفي سوريا أكشاك الكتب المستعملة بمنطقة “جسر الرئيس”بدمشق قريبا من جامعة دمشق. وفي اليمن “أكشاك أرصفة صنعاء”، وفي العاصمة الجزائر سوق الكتب المستعملة، وفي تونس سوق نهج الدباغين وسط العاصمة.

وفي المغرب يوجد أكثر من مئتي سوق للكتاب المستعمل والآلاف من الأكشاك والبسطات على أرصفة الشوارع بمختلف مدن المملكة.

وأشهر الأسواق وأكبرها بالمغرب، سوق ساحة السراغنة، الذي يعرض فيه أكثر من 300 ألف عنوان بشكل دائم. وتنظم فيه “الجمعية البيضاوية للكتبيين” بمشاركة وزارة الثقافة المغربية مهرجانا سنويا للكتاب المستعمل، وقد عرض فيه بدورته الثامنة أكثر من 400 ألف عنوان وزاره أكثر من مليون زائر، حسب تصريح لزياد نزيه عضو جمعية “شبكة القراءة بالمغرب” المشاركة بالمعرض.

الحاج أحمد البقالي (74 سنة)، صاحب أقدم مكتبة لبيع الكتب المستعملة واللوحات التشكيلية وسط مدينة الرباط، يدهش زبائنه بذاكرته المتوقدة وهو يذكر لهم أسماء الكتب القديمة، فيذكر من بينها كتبا تراثية مطبوعة طبعات قديمة، مثل “الدرر السنية” لأبي الفضل العراقي، طبعة بولاق من القرن الثامن عشر، و”جمع الجوامع” لتاج الدين السبكي، و”القصائد الوترية في مدح خير البرية” لإبن الرشيد عن المطبعة الشرفية بالقاهرة، بداية القرن التاسع عشر، وكتاب الرسالة لعبدالله القيراوني عن المطبعة الحجرية بالمغرب للقاضي محمد الروداني 1887.

العشرات من أمّهات الكتب التراثية المخطوطة والمطبوعة طبعات نادرة في الحساب والتصوف والفقه والطب والفلك وسائر المعارف الإنسانية، يذكرها لنخبة من زبائنه كأنما يذكر أسماء أفراد عائلته.

البقالي أمضى أربعين سنة في بيع الكتب القديمة والمستعملة في مكتبته التي تقع بجوار معرض تشكيلي دائم تابع لوزارة الثقافة، حتى أصبح موسوعة في المكتبة العربية القديمة.

ويذكر البقالي أشهر الأسواق قائلا  : يوجد سوق الليدو بفاس وسوق باب دكالة بمراكش وفي الرباط سوق باب الأحد والمدينة القديمة”.

ومن أكبر أسواق الكتب المستعملة في المغرب سوق لقريعة بدرب السلطان وسوق درب غلف وسوق المعاريف وسوق سيدي البرنوصي وسوق حي الحسني، وكذلك سوق البحيرة قرب ساحة الأمم المتحدة من جهة باب مراكش.

ويقول البقالي “كنت أتزود من سوق البحيرة ببعض العناوين المهمة في السبعينات. ومعظمها في الأدب والفكر يطلبها مني زبائن من فرنسا وإسبانيا لأنَّها زهيدة الثمن، وهي تباع بالمغرب بأقل عشرات المرات من أسعارها التي تبيع بها دور نشر فرنسية وإسبانية”.

ويضيف البقالي قائلا “عادة أمضي يومي بعد التسوق في مقهى كافي دوفرانس أو في مقهى دون كيشوت وسط الدار البيضاء للقاء بعض المثقفين الذين يهتمون بعناوين أعرفها من كثرة طلبهم لها، وغالبا ما أبيع بعض ما اشتريت من كتب للصحافيين والكتاب الذين يرتادون هذين المقهيين بربح ممتاز، إضافة إلى مقهى ثالث هو الايكسسوار. أما ما يتبقى في حقيبتي من كتب فأعرضه في مكتبتي بالرباط. ولا يمضي عليها زمن طويل، حتى أكون قد بعتها جميعا وبربح معقول”.

ويقبّل البقالي ظاهر كفه ويضعها على جبينه شاكرا، ويقول “الحمد لله، سوق الكتاب المستعمل بالمغرب مزدهر. وأنا أقول عكس ما يروج بين الناس والإعلام من أنَّ هذه السوق آيلة للتلاشي، فهناك دائما من يعشق الكتاب التراثي والمخطوط، وهناك دائما قارئ لا يستطيع دفع ثمن الكتاب الجديد، وهو تواق إلى القراءة والمعرفة، لذلك يبقى هذا السوق مزدهرا وفاتحا أبوابه”.

ويستطرد البقالي “الكثير من الزبائن يأتون إلينا من الخليج العربي، من السعودية والإمارات وعمان، وهم يبحثون عن مخطوطات نادرة، تصل أسعارها إلى الآلاف من الدولارات، وهم يدفعون بسخاء لاقتنائها”.

هؤلاء هم من عشاق الكتب النادرة والمخطوطات والمطبوعات الأصلية لنفائس الكتب العربية، فهم مستعدون لدفع أسعار خيالية للحصول على كتاب مثل “كتاب القانون” لابن سينا المطبوع في روما، ومثل كتاب “الشفاء” وغيرهما من الكتب النفيسة.

يقول سيدي أحمد “بالمناسبة، أنا ناقد تشكيلي، أكتب بالفرنسية في صحيفة اللوبنيون مقالات نقد تشكيلي. ولذلك يتصل بي الكثير من الفنانين المغاربة لعرض لوحاتهم للبيع في مكتبتي، لأن عددا من زبائني من الفرنسيين. ولذلك تجد في مكتبتي العديد من اللوحات التي أعرضها لفنانين كبار كمحمد القاسمي، محمد شبعة، فريد بلكاهية وغيرهم”.

ويكمل الحاج أحمد “ومن بين زبائني الكثير من المشاهير في الأدب والفن كالمرحوم محمد زفزاف، محمد ربيع، محمد برادة، حسن نجمي، محمد مفتاح، والمرحوم محمد عابد الجابري، وغيرهم. ولدي ما يثير فضول معظم القراء كمجموعة الأعمال الكاملة لجميع الأدباء الذين فازوا بجائزة نوبل في حقل الرواية. وهي تلقى إقبالا واسعا، أما عن السعر الذي أبيع به، فهو حسب الزبون وقدرته المالية. وبعض الكتب التي يجدها الزبون بعد بحث طويل في أسواق الكتب المستعملة تجعله يدفع بسخاء أكثر مما أطلب. وكذلك توجد لدينا طبعات قديمة تعود إلى بداية القرن العشرين لدواوين شعراء مشهورين كالمتنبي، أبوعلاء المعري، أبوفراس الحمداني، البارودي، أحمد شوقي وغيرهم من المحدثين”.

يذكر ناصر النعسي (49 سنة) صاحب كشك عند مدخل السويقة بالرباط أنَّ معظم زبائنه من الطلاب الذين يبحثون عن المطبوعات المدرسية، وأنَّ عمله يزدهر في فترة الامتحانات خصوصا في الفترة التي تسبق امتحان البكالوريا، ولديه ملخصات ممتازة لمختلف المواد العلمية والأدبية، وتتراوح أسعار الكتب التي يبيعها بين 30 و150 درهما (3 – 5.78 دولار).

وورث النعسي كشك الكتب القديمة من والده الذي علمه أصول تجارتها بعد أن حصل على شهادة البكالوريا واختار مداعبة الكتب القديمة بدل الكتب الجامعية، وعرف من خلاله أن زبائن الكتب القديمة ثلاثة؛ الأول، طلاب الجامعات الذين يحتاجون إلى مصادر زهيدة الثمن لإكمال بحوثهم أو محاضراتهم وحتى رسائلهم الجامعية.

الطيار نوع من الزبائن الذين يتفرجون على الكتب ويسألون عن الأسعار، لكنهم لا يشترون شيئا
ويقول النعسي الذي يزاول هذه التجارة منذ عشرين عاما، “أراعي ظروف زبائني من الطلبة لأنَّ أغلبهم من الفقراء الذين يريدون أن يكملوا تعليمهم والكتب القديمة تكلفهم ما لا طاقة لهم به، فأقوم بعمل تقسيط مريح على الكتب المباعة لهم”.

ويضيف “يوجد نوع آخر من الزبائن وهم طلبة المدارس قبل الباكالوريا، وهؤلاء يشترون ما يحتاجونه من كتب دراسية قديمة بأسعار أقل بكثير من أسعارها وهي جديدة.

ومن هؤلاء نحقق أكثر أرباحنا لأنَّ عددهم كبير. والنوع الثالث من الزبائن أسميهم مجانين الكتب، هؤلاء لا يهمهم سعر الكتاب المباع حتى لو كان باهظا، لأنَّهم يريدون بأي ثمن حيازة الكتاب بعد أن سمعوا عنه كثيرا من صديق أو من وسيلة إعلام، لذلك رسموه في خيالهم وصار هدفا لهم”.

ويقول فريد باجا (27 سنة)، صاحب كشك عند باب الأحد بالرباط “أكثر المغاربة قراءة أهل الدار البيضاء ومدينة القصر الكبير، ويليهم سكان الرباط. ويوجد نوع من الزبائن هم النوع الطيّار، فهم يتفرجون ويسألون عن الأسعار، لكنهم لا يشترون شيئا، وسرعان ما يطيرون عن معروضاتنا ليحطوا في مكان ثان، ويفعلوا ما فعلوه معنا، وهناك زبائن نطلق عليهم لقب الغلف، وهم الذين يبحثون عن كتب الأغاني والكلمات المتقاطعة وملخصات تفسير الأحلام وكتب الطب الشعبي وكتب النكت والطرائف السريعة، وتعلم اللغات بسبعة أيام”.

يقول باجا ضاحكا، “أغرب الزبائن، بعض العرب الوافدين، وهم يعتقدون أنَّ بلادنا مملوءة بكتب قديمة للسحر والتّنجيم والشعوذة. وهم يعرضون مبالغ كبيرة على النصابين والمشعوذين لشرائها. وبعضهم سألني عن مادة الزئبق الأحمر لتطويع الجِنّ وجعلهم خداما لهم، كما يعتقدون”.

شعبان العماري أستاذ جامعي (60 سنة) قال  “البحث في رفوف الكتب القديمة عادة لازمتني منذ فترة الشباب، إذ بسبب فقرنا أنا وبعض رفاقي كنا نبحث عن المعرفة حسب إمكانياتنا المالية. وكانت معظم المكتبات التي ورثناها من عهد الاحتلال الفرنسي تبيع الكتب الفرنسية بطبعات جديدة. وكانت باهظة الثمن، لذلك كنا نستعين بالنسخ المستعملة التي يقل سعرها بكثير عن سعر الجديد منها. وكان عثورنا على نسخة من رواية البؤساء بالفرنسية لفيكتور هيغو بعشرة دراهم فقط فرصة لا تعوض، وربما يتشارك طالبان أو أكثر بنسخة واحدة، على أن نتداول قراءتها”.

ويوضح إلياس عدنان (25 سنة)، بائع كتب مستعملة وأشياء أخرى ببسطة بشارع التقدم بالرباط، “أنَّ مصدر الكتب المستعملة يأتي من زبون محتاج أو طالب أمضى سنته الدراسية بنجاح إلى سنة دراسية جديدة، أو تأتي من صاحب مكتبة توفاه الله تعالى وقرر ورثته بيع كتبه، لأنَّها تمثل لهم مصدر إزعاج خاصة وأنهم يفكرون في بيع المحل أو تغيير نشاطه لأن بيع الكتب لا يلبي طموحاتهم التجارية”.

ويضيف عدنان “وفي مرات كثيرة نحصل على كتب قيمة من عمال النظافة، فهم يجمعون ما يرمى في سلة القمامة من كتب ويبيعونها بأسعار زهيدة جدا لأنهم لم يدفعوا ثمنها، ونبيعها نحن لزبون يحتاجها بأسعار مضاعفة، لكن معظم ربحنا يأتي من شراء مكتبات كاملة بالجملة من ورثة لا يعرفون قيمة ما فيها، بأسعار زهيدة”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: