برامج الاندماج الجديدة في أوروبا: حظر النقاب خطوة نحو رأب الصدع

أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قرار حظر النقاب في الأماكن العامة الصادر في العام 2011 في بلجيكا. واعتبرت أنه “ضروري في مجتمع ديمقراطي لحماية حقوق وحريات الآخرين”. وتتبع دول أوروبية عدة النهج ذاته كوسيلة لمكافحة التطرف والإرهاب المتصاعد والذي قاد إلى ظهور موجة يمين متطرف تشكل خطورة على مبادئ العيش المشترك في المجتمعات الأوروبية. والجالية المسلمة تتحمل بدورها جزءا من هذا الواقع (الإرهاب واليمين المتطرف) بسبب ميلها نحو تكوين مجتمعات خاصة منغلقة على نفسها ومنفتحة على مسببات التطرف، ما يولد نفورا بين المسلمين وبقية أطراف المجتمعات الغربية التي تبين أنها تجهل الكثير عن الإسلام.

يكشف حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الذي صدر مؤخرا ويقر بضرورة حظر النقاب وما يشابه في الأماكن العامة، النهج المتغير الذي فرضه صعود التطرف على منطقة تعد رائدة في مجال الحريات والانفتاح وحقوق الإنسان والتي تعد حرية المعتقد والملبس جوهرها.

ويلقي الحكم الضوء على العلاقة الطردية بين تكوين مجتمع ديمقراطي متناسق يتسع للجميع ويشجع الاندماج ووقائع وممارسات تقف عائقا أمام تحقيق ذلك. وهذه الجدلية ليست وليدة لحظة صعود اليمين المتطرف على أكتاف الإرهاب الذي ضرب العواصم الأوروبية في السنوات الأخيرة ارتباطا بما يجري في الشرق الأوسط، بل تعود إلى قبل ذلك بسنوات.

كانت هذه القضية أشبه بالنار تحت الرماد، تتحرك في فترات الانتخابات الأوروبية، في صفوف اليمين المتطرف أو عند حدوث عملية إرهابية، وعددها كان محدودا قبل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وذلك في علاقة مع الاختلافات بين استراتيجيات تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، الذي نجح في تهجين ذئاب منفردة كانت تشعر بالضياع وازدواجية مرضية كانت نتيجتها متطرفون تسبب بعضهم في عمليات إرهابية دامية.

ينص القانون الذي أقرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على معاقبة مخالفة بغرامة مالية والسجن لعدة أيام. ويرى مراقبون أن الحكم جاء طبيعيا ومتفقا مع ما تشهده أوروبا من موجة تطرف (الأوروبي والإسلامي). ولم تكن تلك الخطوة هي الأولى لمواجهة النقاب، إذ تزعمت فرنسا أول قرارات حظر النقاب في الأماكن العامة بموجب قانون دخل حيز التنفيذ عام 2011. وقبل ذلك كانت فرنسا أول بلد في أوروبا يسن قانونا حظر سنة 2004 الحجاب الإسلامي في المدارس.

و أصدرت سلطات بلجيكية محلية عام 2008 لوائح تحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، ثم قررت في سنة 2011 منع النقاب بشكل جذري، وحذت حذوها هولندا وبلغاريا. فيما وافق مجلس النواب الألماني في شهر أبريل الماضي على قانون يقضي بفرض حظر جزئي على النقاب.

ورفض البرلمان السويسري في مارس الماضي قانونا يقضي بحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة في كل أنحاء سويسرا. وتحظر عدد من المناطق في إقليم كتالونيا ارتداء النقاب في الأماكن العامة، ولكن في عام 2013 أصدرت المحكمة الإسبانية العليا قرارا بوقف هذا الحظر بعد اعتباره حدا للحرية الدينية. ويدخل قرار حظر النقاب الإسلامي في النمسا حيز التنفيذ بدءا من الأول من أكتوبر المقبل.

وتنتهج دول أخرى غربية أخرى وحتى أفريقية خطوات مشابهة في ما يتعلق بالنقاب، من ذلك الكاميرون تشاد والكونغو، وكانت حجة المنع أن النقاب أو غطاء الوجه يمكن أن يستعمل للتخفي للقيام بعمليات إرهابية. وحتى الدول التي لم تمنع النقاب إما تعمل على إصدار قانون في الغرض على غرار النرويج، وإما أنها تمارسه بشكل غير مباشر من خلال الاعتداءات التي تتعرض لها الجاليات المسلمة.

ويخشى البعض من احتدام الصراع الثقافي بين المسلمين والغرب في ظل هذه الأوضاع، فحتى بعد أن بدأت موجة صعود اليمين المتطرف تخف، بخسارة مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية وقبل ذلك خسارة خيرت فيلدرز في الانتخابات الهولندية في مايو 2017، فإن أسباب هذا الصعود مازالت قائمة.

وتحذر أحزاب اليمين المتطرف، مدعومة بجمعيات ومنظمات قومية صاعدة، باستمرار من خطر أسلمة أوروبا مستندة إلى إحصائيات وأرقام تتحدث عن ارتفاع أعداد المسلمين في البلدان الأوروبية؛ من ذلك تقرير صدر عن معهد بيو الأميركي في ابريل 2017 يتوقع تفوق عدد المسلمين على المسيحيين بحلول عام 2035، اعتمادا على عدد الولادات، ما سيجعل من الإسلام أكثر الديانات انتشارا في العالم.

 

ويبلغ عدد المسلمين في أوروبا الآن حوالي 70 مليون نسمة. وتشير الإحصائيات التي أجراها معهد بيو إلى أنه من المتوقّع أن تصل نسبة المسلمين في أوروبا إلى حوالي 10 في المئة من السكان بحلول عام 2030. والخطير في هذا الأمر أن بقية مكونات المجتمعات الأوروبية لا تعرف الكثير عن الجزء المسلم منها، الأمر الذي يعمق هوة الشرخ الثقافي.

ويرجع خبراء أسباب تصاعد الأزمة إلى جهل الغرب بالإسلام الذي اعتبروه المنبع الأول للكراهية والعنصرية. وأشارت تقارير ودراسات إلى أن أغلب مواطني أوروبا يظنون أن السعودية هي أكبر الدول المسلمة من حيث السكان رغم أنها إندونسيا، كما يظن آخرون أن أغلب المسلمين يعيشون في منطقة الشرق الاوسط وأن أعدادهم لا تزيد عن ملايين معدودة.

ويرجع آخرون تصاعد الإسلاموفوبيا إلى الجاليات المسلمة المتشددة التي تسبت بنهجها المتطرف وإنعزالها عن المجتمع الأوروبي وعدم مقاومتها لجمعيات الإسلامية المتطرفة في تكوين بيئة خصبة للتطرف وتسهيل ارتكاب هجمات إرهابية في المدن الأوروبية.

تشكل أوروبا بشكل عام وبريطانيا وفرنسا خصوصا ملاذا آمنا للكثير من الجماعات المتطرفة والإسلاميين الذين ثبتوا أوصالهم في أوروبا منذ بداية السبعينات عن طريق جمعيات أهلية خيرية تحصل على أموال من الخارج مجهولة المصدر. وعلى مدار عقود نجحت تلك الجمعيات في نشر مذاهب متطرفة ومتعارضة مع ثقافة المجتمعات الغربية وسياساتها.

لكن، ولئن تتحمل الجاليات المسلمة جزءا لا بأس به من فشلها في تحقيق الاندماج، لا تبتعد الحكومات الأوروبية وسياستها عن دائرة الاتهام أيضا، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث لم تواكب برامج الاندماج الحكومية تطورات الوضع بعد تلك الأحداث التي كانت سببا في ظهور الأحكام المسبقة عن الإسلام وربطه بالإرهاب من جهة واتجاه الجاليات المسلمة نحو الانعزال نتيجة ذلك.

وتتحدث الحكومات الغربية باستمرار عن مساعيها في إدماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية. ويقول المتحدث باسم الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إدوين صمويل “المسلمون البريطانيون جزء مهم من النسيج الاجتماعي للمملكة المتحدة، وهم يشغلون مناصب عليا في المملكة ويلعبون أيضا دورا في تمثيل الإسلام كدين سلام في العالم من خلال التعايش مع الآخرين. لن نتسامح مع خطاب الكراهية، الذي يهدد أسلوب ونمط حياتنا”.

وجاء في حيثيات قرار محكمة العدل الأوروبية أن هيئة المحكمة لاحظت أن هناك مخاوف “مبررة” متعلقة بضمان احترام الحد الأدنى من ضمانات الحياة في المجتمع، ويمكن اعتبار حظر النقاب أحد العناصر لـ”حماية حقوق وحريات الآخرين”. وأضافت المحكمة “أن الحظر مبرر مبدئيا أخذا في الاعتبار أنه يسعى لضمان شروط العيش المشترك”.

لكن، المحكمة الأوروبية ومختلف الدول التي أقرت المنع لم تراع، من وجهة نظر جوش لوي، الصحافية في مجلة نيوزويك الأميركية، شروط السير نحو تحقيق هذه الغاية المرتبطة بالعيش المشترك وتحقيق الاندماج ومحاربة التطرف، فمثلا فرنسا أو بلجيكا حين “منعت بشكل صارم ارتداء النقاب لم تتشاور في الأمر مع الجاليات المسلمة”؛ وفي ذلك تغذية للشعور بالإقصاء والرفض اللذين قد يقودا في النهاية إلى تطرف البعض.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: