طريق اللاعودة.. إما الفساد وإما الدولة

الحرب على ظاهرة الفساد تتطلب إرادة سياسية حقيقية، تعلن وعيها بعمق الظاهرة، وتتبنى حربا طويلة المدى لفك الارتباط أولا بين منظومات الحكم وشبكات الفساد.

في أكثر من عاصمة عربية تتردد مؤخرا على ألسنة صناع القرار السياسي جمل تفيد بوجود عزم لمكافحة الفساد، ويكاد لا يوجد موضوع يحظى بإجماع مثل أولوية محاربة الفساد بمختلف تمثلاته، ولكن الموضوع يلحق دائما بـ”لكن”. عبارة الاستدراك الأخيرة توحي بوجود شروط ومحددات لهذه الحرب المشروعة والشرعية والحتمية، وتحيل إلى أسئلة بحجم القضية: من يخوض الحرب على الفساد؟ وكيف يخوضها؟ وبأي أسلحة؟ وأي مدى يمكن أن تبلغه تلك الحرب؟ وهل أن الحرب على الفساد مجرد شعار يطلق في الخطابات السياسية وفي وسائل الإعلام أم أنها مناخ كامل تستنفر فيه وله كل الشروط القانونية والتشريعية والإعلامية والتعليمية والسياسية؟

في الرباط وغيرها من عواصم العرب، أعلنت الحرب ضروسا على الفساد، ومنذ سنوات، ولكن بما أنه ثمة وعي بأن الفساد منظمة عميقة مترسبة لا تبقي ولا تذر، فإن مواجهته تقتضي أيضا أن تكون من جنسه ومن شاكلته؛ منظومة شاملة وإستراتيجية لا تبقي ولا تذر.

في المغرب تداول الإعلام خبر إيقاف العديد من رجال الأعمال والإعلاميين و رجال الأمن على خلفية التورط في شبهات فساد أو ما جاورها. هلل البعض للحملة من منطلق أن لكل شيء بداية وأن طريق الألف ميل تبدأ بخطوة، وتحفظ البعض على الآليات وعلى الجدوى، واعترض الكثير على سطحية القرارات واعتبرها من قبيل ذر الرماد على العيون تبعا لأن الفساد أشمل وأعمق من الإيقافات التي تم الإعلان عنها.

في الحرب على الفساد قداسة وشرعية تنطلق من وعي لا خلاف فيه، بوجود علاقة تأثير وتأثر بين الفساد وقضايا أخرى حارقة من قبيل الإرهاب وأزمات الاقتصاد والتهريب والبطالة وغيرها من أمهات القضايا، وهي دوافع ساهمت، بتفاوت، في اندلاع الاحتجاجات في الريف  ولا تزال تمد الشارع المغربي  بأكثر من دافع للغضب الجماعي.

ما تقدم يشير إلى أن المشكلة ليست كامنة في مواجهة الفساد، فتلك من مناطق الإجماع ولكن سؤال الكيفية هو ما يضع المطلب فوق محك الاختبار، وفي طرح مسألة الكيفية إحراج لداعمي الحرب المعلنة في أكثر من ميدان، وللمعترضين على المواجهة من منطلق أنها انتقائية أو استعراضية ولن تطال عمق الظاهرة، باعتبار أنهم (أي المعترضين) تصدوا للنقد وأحجموا على البدائل.

الأرقام التي تعلن ما يتكبده الإقتصاد المغربي  جراء الفساد والهدر المالي والتهريب والأسواق الموازية وسوء التوظيف، وكلها عبارات من مشتقات الفساد، تؤكد أن ضرورة إعلان المواجهة اليوم قبل غد قد لا يوفر فرصة للتدارك. وهو ما يعزز شق المتحمسين الداعمين لحراك الريف  مثلا، من منطلق أن البداية المحتشمة أفضل من الركون إلى كسل الانتظار والتفرج على مشهد غرق السفينة.

فلا وجود لخيارات في الحرب على الفساد “إما الفساد وإما الدولة، إما الفساد وإما المغرب ” وأنه “مثل كل المغاربة  اختاروا  الدولة ، العلاقة المباشرة بين إعلان الحرب على الفساد، أو بدء أي إجراءات ضد الآفة، وبين خروج الاقتصاد، أي اقتصاد، من مآزقه، تعزز كفة المنتصرين للحرب على الفساد بصيغتها المغربية أو  التونسية أو المصرية أو الجزائرية أو سواها.

وفي المقابل تظل الأسئلة مشروعة حول مدى ونجاعة حرب على الفساد تخاض بتشريعات وقوانين لا تواكب التحولات التي يعيشها العالم، والتي عرفتها أيضا حيل وألاعيب ومناورات شبكات الفساد، وتظل الأسئلة حقيقية حول مدى نجاعة حرب على الفساد بمنظومة حكم لطالما تغذت، وغذت كذلك، من شبكات الفساد، تبعا للصلة الوثيقة بين شبكات الفساد وأنظمة الحكم وأجهزة الدولة العميقة.

بين اعتراضات المعترضين وتهليل المساندين، تبرز مسألة جديرة بالإشارة ولطالما تكررت منذ عقود، ومفادها أن الفساد منظومة سياسية وليست سلوكا اقتصاديا، وبناء عليه فإن الحرب على الظاهرة تتطلب أولا إرادة سياسية حقيقية، تعلن وعيها بعمق الظاهرة، وتتبنى حربا طويلة المدى لفك الارتباط أولا بين منظومات الحكم وشبكات الفساد والزبونية.

الإيجابي في الجديد الراهن المتصل بالفساد أن الحكومات التي تعلن الحرب على الفساد ستجد نفسها في مواجهة رأي عام لن يوفر لها إمكانية التراجع، وأيضا في مواجهة المتضررين من تلك الحرب، وهم كثر ومتنفذون. لذلك فإن الحرب على الفساد، وإن كانت بطيئة ومتعثرة، فهي أيضا طريق بلا عودة، لأنها تعني أن لا خيار: إما الفساد وإما الدولة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: