خليفة بوتفليقة نسخة جزائرية لسيناريو كوبا أم جنرال من الجيش
يلعب الجيش الجزائري دورا حيويا في صناعة القرار الأمني والسياسي منذ استقلال البلاد. وتأتي في سياق هذا الدور صناعة الرؤساء؛ وهي مهمة لم تشهد من قبل تعقيدات مثل التي تعيشها الجزائر اليوم في ظل صعود حلف جديد منافس يسعى بدوره إلى خلافة الرئيس المريض عبدالعزيز بوتفليقة، وهو الحلف الرئاسي الذي يقوده شقيقه سعيد بوتفليقة.
تصدرت شائعة وفاة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة أحاديث الجزائريين قبيل إحياء الذكرى الخامسة والخمسين لاستقلال بلادهم، وسط قلق متصاعد من الصراعات التي لم تعد بين الجماعات السياسية المتناحرة لخلافة بوتفليقة. ولم يفلح ظهور الرئيس في تسجيل نادر بالمناسبة في التقليص من قلق الجزائريين وإحباطهم وسط تجاذبات سياسية متصاعدة وأزمة اقتصادية لم تخفّ وطأتها رغم العديد من الإجراءات الحكومية واحتقان اجتماعي يزيد من خطورته توسع رقعته وتعدد أسبابه.
اكتفى الرئيس بوتفليقة، بتسجيل ظهور نادر جديد، بمناسبة الاحتفالات بعيدي الاستقلال والشباب. وتوجه بخطاب إلى الشعب الجزائري، زاد من حيرته، حيث خلا من أي إشارة لترميم الوضع في بيت السلطة، بعد التضارب الذي طفا على السطح بين حكومتي عبدالمالك سلال وعبدالمجيد تبون.
لم يدل خطاب الرئيس بأي إشارة توحي أو تبرر التغييرات الحكومية الأخيرة، في ظل التضارب بين رئيسي الوزراء السابق والحالي، رغم أنهما يروّجان لتنفيذ حكومتيهما لبرنامج رئيس الجمهورية.
يعد هذا الظهور المحتشم الثالث لبوتفليقة خلال أقل من ثلاثة أشهر، وهو أمر لم يتعوّد عليه الجزائريون منذ إصابة الرئيس بجلطة دماغية. فبعد قيامه بالاقتراع في الانتخابات التشريعية التي جرت مطلع مايو الماضي، أشرف في نهاية شهر يونيو الماضي على أشغال مجلس الوزراء، ثم جاءت زيارته لمقبرة العالية بالعاصمة للترحم على شهداء ثورة التحرير في ذكرى عيد الاستقلال (5 يوليو).
الرئيس بوتفليقة، يكتفي بتسجيل ظهور نادر جديد، بمناسبة الاحتفالات بعيدي الاستقلال والشباب
ظهر بوتفليقة على كرسيه المتحرك في مقبرة العالية يترحم على أرواح الشهداء ويقبل العلم الوطني ويصافح الوفد الرسمي الذي ضم عددا من المسؤولين الكبار في الدولة، لكن من دون تبادل أطراف الحديث والاكتفاء بالتحية، في صورة تأتي كردّ على شائعة جديدة بوفاته تداولتها يوم الثالث من يوليو وسائل التواصل الاجتماعي.
يكتفي الرئيس الجزائري منذ إصابته بالجلطة الدماغية في أبريل 2013، بنشاط نادر في الداخل، بسبب فقدانه للقدرة على الحركة والكلام، وحتى اليمين الدستورية التي قرأها في 2014 بمناسبة انتخابه رئيسا للبلاد للمرة الرابعة، قرأها بصعوبة واقتضاب. ويظهر للرأي العام في غالب الأحيان، في أنشطة دبلوماسية نادرة، لدى استقباله لضيوف البلاد من رؤساء ومسؤولين، واضطرّ في فبراير الماضي للاعتذار عن استقبال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بسبب ما سمي آنذاك بـ”عارض صحي طارئ”، وتكرر السبب ذاته مع الرئيس الإيراني حسن روحاني.
بخلاف نفي إشاعة وفاته، لم يحمل خطاب الرئيس أي جديد بالنسبة إلى الجزائريين، حيث جدد مطالبة فرنسا بالاعتراف الرسمي بـ”مآسي احتلالها للجزائر” ودعوة الجزائريين إلى الحفاظ على الوطن ومكتسبات الاستقلال؛ وحتى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي أعلن عنها غابت وسط البحث عن إشارات أو تلميحات تنبئ بما سيؤول إليه الوضع في البلاد خلال مرحلة ما بعد بوتفليقة. لم يتعود الجزائريون على هذه الحيرة، فلطالما كان الحسم بيد الجيش؛ حيث ما فتئت السلطة السياسية في الجزائر تسير على الهدي الذي يرسمه لها العسكريون منذ الاستقلال وإلى اليوم.
لكن، اليوم هناك صراع محتدم على خلافة بوتفليقة بدأت أصواته تعلو ولم يعد من الممكن إخفاء الأمر، مع تعدد الجبهات المتنافسة. ورصدت مجلة لوموند أفريك الفرنسية صراعا حامي الوطيس بين الجماعات المتناحرة على الخلافة في القصر الرئاسي وهيئة الأركان العامة للجيش، في ظل تدهور الحالة الصحية للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. وذكر مؤسس المجلة الخبير في الشأن الجزائري ميشال بو أن الجميع يكشر عن أنيابه استعدادا للانقضاض على كرسي الرئاسة.
صورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في ظهوره النادر بمناسبة عيد الاستقلال زادت من قلق الجزائريين حول مستقبل البلاد
وقسّم الصحافي الفرنسي هذه الجماعات المتناحرة إلى قسمين رئيسيين: الحلف الرئاسي الذي قال عنه إنه يحتل الأسبقية ويقوده سعيد بوتفليقة، وحلف قيادة الأركان برئاسة نائب وزير الدفاع أحمد قايد صالح. وذكرت لوموند أفريك أن هذين الحلفين التقيا قبل ثلاث سنوات لإزاحة الجنرال توفيق، قائد الاستخبارات الجزائرية والحاكم الفعلي للجزائر منذ ربع قرن.
وبين هذا الحلف وذاك، يبرز اسم أحمد أويحيى مستشار عبدالعزيز بوتفليقة. وكرس خلو خطاب الرئيس من توضيح المشهد في هرم السلطة التجاذب المبكر بين عبدالمالك سلال وأحمد أويحيى من أجل خلافته، سواء من خلال الانتخابات الرئاسية التي من المفروض أن تجرى سنة 2019، أو في حال تعذر على الرئيس الحالي الاستمرار في منصبه، من حالة الغموض التي ترجح فرضية صراع الأجنحة، وراء التغيير المسجل في الخطاب والبرنامج بين ما قبل الانتخابات التشريعية وما بعدها.
لم يستبعد مراقبون أن يكون الانقلاب الحاصل في خطاب وبرنامج الحكومة، حملة انتخابية مبكرة لرجل المرادية القادم والذي يقف خلف الستار، سعيد بوتفليقة، الشقيق الأصغر والمستشار الشخصي للرئيس. ويستند هؤلاء في ذلك، إلى خروج الرجل للرأي العام بمناسبة الحركة الاحتجاجية التي قام بها عدد من المثقفين والكتاب والإعلاميين مع الروائي رشيد بوجدرة بعد الإهانة التي لحقته في برنامج تلفزيوني تم بثه على قناة النهار الخاصة والمحسوبة عليه، حيث عبر عن تضامنه مع الروائي ومساندته له.
وحملت هذه الحركة إشارات مبكرة عن بداية تمرد الرجل على أذرعه الإعلامية والسياسية وتوجهه إلى بناء حلف جديد من قوى مقبولة لدى الرأي العام بعدما استُهلكت القوى الكلاسيكية المؤيدة لشقيقه الرئيس وأحرقت أوراقها الشعبية. ورغم تراجع حظوظ الرجل في السنوات الماضية بسبب تركة الحراك الإقليمي والداخلي المناوئ لخيار التوريث فإن سيناريو انتقال الحكم على الطريقة الكوبية (من الرئيس إلى الشقيق) مرشح للتكرار في الجزائر، رغم غموض موقف الشركاء الأجانب والإقليميين للبلاد.
ولا يروق هذا السيناريو للكثير من الأحزاب السياسية. وحذر منه بطريقة مبطنة حزب طلائع الحريات (قومي) لرئيس الحكومة السابق علي بن فليس، وحركة مجتمع السلم (إخواني)، عبر التلميح لقيام حكومة عبدالمجيد تبون بدعاية انتخابية مبكرة. وفيما استند بن فليس إلى تزامن برنامج وخطاب الحكومة مع الاستحقاق الرئاسي بعد 18 شهرا فقط، شدد عبدالرزاق مقري على رفض المشاركة في حوار الوضع الاقتصادي والاجتماعي دون إدراج الوضع السياسي في الأجندة.
القيادات العسكرية تمثل عقبة أمام صعود سعيد بوتفليقة لسدة الحكم، لا يمكن تجاوزها
ويشير هذا الموقف إلى مخاوف الحركة من توجه الحكومة إلى بناء إجماع وطني حول الأزمة الاقتصادية، بتزكية من الطبقة السياسية والمجتمع المدني والشركاء الاجتماعيين والخبراء، لفرش السجاد الأحمر أمام ساكن قصر المرادية القادم، الذي عليه أن يجتاز مجموعة شروط رئيسية ليفوز بالكرسي.
سيقرر الفائز بين سعيد بوتفليقة، الذي يعلم الجميع في الجزائر أنه الوصي، وأحمد قايد صالح، الذي يعتبره الجيش المرشح الأقرب لخلافة بوتفليقة، وأحمد أويحيى، الذي يملك شبكة معمقة ونشيطة مع قدماء جهاز الاستخبارات الفاعلين، عناصر رئيسية حددها ميشال بو بـ: دعم الجيش وجهاز الاستخبارات ورجال الأعمال، الذين زاد نفوذهم كثيرا، ودعم الشركاء الدوليين وهم بالأساس الدول الغربية؛ أما الشعب الجزائري، الذي من المفروض أن تعود الكلمة الفصل إليه، فيبقى، وفق ميشال بو، آخر من يُنظر إليه.
لكن، في كل الحالات، لن يكون هناك تحرك بعيد عن سلطة الجيش، حيث يختم الصحافي الفرنسي تقريره مشيرا إلى أن المؤسسة العسكرية هي وحدها القادرة على ضمان الأمن العام إن تحرك الشارع بعد غياب الرئيس بوتفليقة؛ وهي القادرة على حماية البلاد من الإرهاب في حال تعثر الانتقال السياسي، من خلال حراسة الحدود خاصة مع تونس وليبيا. ولأن مناصب أفرادها لا تتغير دائما فهم أوفياء لقائدهم الجنرال قايد صالح، وهذا نتيجة طول الصحبة.
وما كان للشأن الجزائري الداخلي أن يعني الكثير للعالم الخارجي لولا الدور الذي تقوم به الاستخبارات وقوات الأمن الجزائرية ضمن الاستراتيجية الغربية لاستقرار شمال أفريقيا ومنطقة الساحل في مواجهة تهديد إرهابي إقليمي. ويقول الخبراء إنه حتى وإن أجبر بوتفليقة على مغادرة السلطة بسبب صحته ستواصل قوات الجيش والاستخبارات الجزائرية العمل بنفس الطريقة.
وتبعا لهذه المعطيات، فإن القيادات العسكرية تمثل عقبة أمام صعود سعيد بوتفليقة لسدة الحكم، لا يمكن تجاوزها تقريبا؛ وأي محاولة للقيام بذلك أو خطة تفكير للقضاء على هيئة الأركان العامة للجيش ستكون بمثابة انتحار للأمة الجزائرية التي دفعت ثمنا باهظا لنيل استقلالها قبل خمسة وخمسين عاما.