الفساد أولا، الديمقراطية أولوية
إعادة صياغة قواعد الممارسة الديمقراطية بالمغرب تماشيا مع دينامكية المجتمع والتحديات التي تمر بها الدولة على كافة المستويات، تعد أولوية لتنظيم أمثل للعلاقات وتدبير الاختلافات وتحقيق المصالح المتبادلة؛ الشيء الذي يتطلب إطلاق حزمة أخرى قوية من الإصلاحات الفورية تهم أوراش التعليم والصحة والسكن والشغل.
قصة الديمقراطية في المغرب لها مواصفاتها وظروفها كمنتوج محلي بدأ خطواته الأولى بإقرار مبدأ التعددية السياسية وإنكار الحزب الوحيد والانفتاح الحذر على حرية رأي وحقوق الإنسان. ورغم التعثرات إلا أن التجربة الجنينية أخذت أبعادا أكثر جرأة تكرست في العام 1998 بحكومة التناوب التي ترأسها عبدالرحمن اليوسفي الاشتراكي وأكبر المعارضين بالمغرب.
لا شك أن نية الإصلاح على كافة الأصعدة كانت حاضرة أثناء مرحلة التفاهمات السياسية بين الدولة والمعارضة في عقد التسعينات. وحتى تكرار تعثر الديمقراطية في مناسبات عديدة لم يلغ عددا من التراكمات المهمة في مجالات الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدستورية التي توجت بدستور 2011.
كان الخوف منصبا حول نتائج الإفراط في استغلال الجـوانب التكتيكية في الممارسة الديمقراطية دون الاهتمام بتكريس مبادئها الكبرى والاستراتيجية المتمثلة في الحد من التسلط والفساد والاستغلال، ما سيساهم في تآكل قدرات المجتمع والدولة معا في إفراز نخب سياسية وثقافية وعلمية ودبلوماسية مؤهلة وقادرة على تحمل المسؤولية.
من هذا المنظور يكون الفساد هو المستفيد الأول من تغييب آليات الديمقراطية وتكلس المجتمع وتناسل صراعات ناتجة عن أهداف هلامية وحماسة وجدانية أو أيديولوجية تنتج حالات من التطرف الفردي والجمعي.
استغلال الفساد لهوامش الديمقراطية نعاينه في كل عملية انتخابية من خلال كسب أصوات الناس بطرق ملتوية يكون المال أحد أبطالها. والمسؤولية هنا تتحملها الأحزاب السياسية بالدرجة الأولى بسماحها لسماسرة الفساد بالنزول إلى الشارع تحت لافتاتها الحزبية.
الديمقراطية باعتبارها أولوية تنطلق كضرورة قصوى من القطع المؤسسي الحازم مع الفسـاد والاهتمـام بتنمية المجتمع المغربي سياسيا وحقوقيا واقتصاديا وإشاعة ثقافة المواطنة، وهذا يتلاقى مع تصور تقرير الخمسينية: “المغرب الممكن، آفاق 2025”.
يرى هذا التقرير أن التنمية البشرية تنطلق من رؤية تتحدد في التنمية باعتبارها حرية، وأن توسيع دائرة اختيارات الأفراد وحرياتهم ومشاركتهم في صنع القرار كفيل بإطلاق ديناميكية، يتحكّم فيها ذاتيا للنمو الاقتصادي بهدف تحسين الدخل الفردي.
سياقنا المغربي الحالي يتطلب إعادة تدوير سؤال أين الثروة الذي طرحه الملك محمد السادس في خطاب العرش عام 2014، عندما أكد أنه (إذا كان المغرب قد عرف تطورا ملموسا فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين)
سياقنا المغربي الحالي يتطلب إعادة تدوير سؤال أين الثروة الذي طرحه الملك محمد السادس في خطاب العرش عام 2014، عندما أكد أنه “إذا كان المغرب قد عرف تطورا ملموسا فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين”.
المهمة شاقة وتتطلب تضافر كافة الجهود عندما تتعلق المسألة بمحاربة التطبيع مع الفساد والبحث الحثيث عن أدوات إنتاج الثروة وتكريس تطلعات المواطنين، والفوز في هـذه المهمة سيكـون لا محـالة مكسبا للأمة وتسهيلا للواقع المعيشي للأجيال القادمة.
وهذا المسار التنموي يتطلب بالأساس التعامل بحزم مع انتهازية أقطاب الفساد حتى لا تتحول الديمقراطية إلى أداة طيعة في يد بعض الانتهازيين الذين لا يتورعون في بيع أي شيء ولا يهمهم دخول الوطن في متاهات التيه السياسي والأزمات الاقتصادية.
المستفيدون من كافة الثغرات داخل مؤسسات الدولة وخارجها يخافون من آثار الديمقراطية المدمرة لقلاع الفساد، لذا فهم يعملون بكل طاقاتهم على تعطيل مساراتها وقطـع كل الطـرق لتحقيقها، ولـن يتـورعوا في استخدام كـافة الأسلحـة لتحقيق أهدافهم.
محاربة الفساد في أدق تجلياته السياسية والاقتصادية والإدارية عملية مرهقة ومعقدة لكنها جراحة ضرورية كي يتعافى الجسم المغربي ككل، فروائح عمليات الفساد الملغومة من تزوير العملة والتهريب الجمركي والغش في البضائع والمواد الاستهلاكية وتزوير الوثائق والاستفادة من الأموال العمومية دون تقديم خدمات، أضحت تزكم الأنوف.
وما كشفه المجلس الأعلى للحسابات في السنوات الثلاث الأخيرة من ملفات في هذا الخصوص تستوجب التعامل معها بحزم ومتابعة المسؤولين عنها بقوة القانون. إذ لا يكفي أن يحيل الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، إدريس جطو، ملفات الاختلالات التي يرصدها قضاة المجلس لوزارة العدل بل يتوجب على الدولة تفعيل الآليات القانونية لمتابعة كل من يثبت في حقه إخلالا بالمسؤولية.
نحن بحاجة ماسة إلى إرادة سياسية حقيقية تتكفل بتفعيل بنود التحول الديمقراطي وتحطيم معابد الفساد وتجسير طريق الثقة بين المواطن والدولة وإعادة الاعتبار إلى العملية السياسية.
إقرار الديمقراطية كمنتوج محلي غير مستورد ولا مفروض من الخارج يتعلق في شقه العملي بتعميق ثقافة المواطنة وربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد وتفعيل سياسات تنموية مُراقَبَة تستهدف المواطن بالدرجة الأولى.
أقول إن ترسيخ العملية الانتخابية وتكثيف المبادرات الإصلاحية التي دشنها العاهل المغربي والحركة الاحتجاجية ذات المطالب الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، كلها عناوين فرعية لديمقراطية مغربية تقدم نفسها بديلا واقعيا لما تم إنتاجه وتكريسه في محيط دولي وإقليمي مضطرب يكرس نمـاذج العنف والحروب الأهليـة والانقسامات الحادة اجتماعيا ومناطقيا وطائفيا.
بالتالي يكون التحدي الأكبر هو إنتاج دبلوماسية هادئة وحاسمة وحذرة وحازمة والعمل على تكوين نخب قابلة للتأقلم مع كل الانتهاكات الواقعية والمحتملة، للوصول إلى حالة من التوازن.
لقد حان الوقت للتعمق بجدية في قراءة التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، فالكل بات يعي، وإن بدرجات متفاوتة، خطورة الارتكان إلى منطق اللامبالاة والسلبية وعدم القيام بكل ما يمكن لمحاربة الفساد، وإعمال الفهم لاكتشاف الأخطار التي تحيط باستقرار المجتمع، وابتكار الحلول لتجاوز الأزمات، واستثمار المتاح من الثروات المادية واللامادية بكل مسؤولية ونكران للذات لتحقيق التحول الديمقراطي وتطويق جيوب الفساد.