حريق برج غرينفيل.. ماتوا لأنهم فقراء!

الشعور بالتجاهل والتهميش انفجر بعد مأساة لندن في صورة مظاهرات تطالب بالتحقيق في ما حدث وغضب عام من الإهمال والتقصير اللذين تعاني منه أبراج الفقراء.
العرب

أطل الوجه القاسي لحياة الفقراء في لندن على الجميع بعد أن خمدت ألسنة النيران التي التهمت برج غرينفيل في غرب لندن، وحصدت معها أرواح العشرات من المقيمين في هذا البرج. اتضح أن 600 فرد أغلبيتهم من المهاجرين العرب والأفارقة والآسيويين، كانوا يعيشون في 120 شقة في البرج المكون من 24 طابقا ويعانون من الإهمال الشديد من جانب بلدية كينسينغتون وتشيلسي المسؤولة عن إدارة المبنى. ويفتقرون إلى أدنى درجات الأمان في مساكنهم التي يضمها هذا البرج.
سبق لهم أن اشتكوا في عام 2013 من أن أجهزة الأمان ومعدات إطفاء الحريق في المبنى لم يتم اختبارها. ثم اشتكوا مرة أخرى من أن أغلب منافذ الخروج من المبنى مغلقة بسبب مخلفات عملية ترميم وإصلاح المبنى. ثم اتضح بعد الحريق أن عملية الترميم ساهمت في انتشار اللهب وامتداده بسرعة غير معهودة إلى كافة الطوابق بسبب استخدام مواد رخيصة في تبطين واجهة المبنى بهدف تخفيض تكلفة استخدام الطاقة. واتضح أن هذه المواد سريعة الاشتعال وكان من المفترض ألا يتم استخدامها رغم انخفاض تكلفتها لأنها يمكن أن تؤدي إلى كارثة.
دراسة تكشف أن مداخيل 10 بالمئة من أصحاب أعلى الأجور في بريطانيا تبلغ 12 مثيلا لمداخيل 10 بالمئة من أصحاب أقل الأجور
باختصار كانت سلطات بلدية كينسينغتون وتشيلسي تعلم أن البرج مهيأ لكارثة يمكن أن تقع في أي لحظة، ومع ذلك لم تقم بجهود حقيقية مؤثرة لمنع هذه الكارثة. أما سكان المبنى فحالهم مثل حال الكثيرين من المهاجرين البسطاء في لندن، لا يملكون حضورا في الأحزاب الرئيسية بحيث يستمع السياسيون إلى ما يعانون منهم. ولا يمتلكون قدرة على التأثير على أجهزة الإعلام لإبراز المشكلات التي تهدد حياتهم في مساكنهم، بل لا يمتلكون ما يكفي من الجهد لملاحقة المسؤولين طلبا لحقوقهم نظرا لأن كفاحهم في لندن يستنزف كل ما لديهم من طاقة.
كانوا يعانون في صمت، ويحاول كل منهم أن يشق طريقه في المهجر وسط ظروف قاسية. ولعل قصة العائلة المغربية  التي  لقيت مصرعها في الحريق هي أبرز تعبير عما يعانيه المهاجرون في المهجر. و كذلك محمد الحاج الذي فر من الحرب في سوريا وتمكن من الوصول إلى بريطانيا عام 2014، واستطاع هو وشقيقه الحصول على حق اللجوء في بريطانيا، ثم بدأ يدرس الهندسة المدنية أملا في الحصول على عمل أفضل وحياة أفضل بعد أن ينهي دراسته، لكن القدر لم يمهله، وتوفي في عمر الـ23 عاما، بينما تمكن شقيقه من النجاة. فتاة أفريقية هي خديجة ساي، كانت تدرس بالجامعة وتعمل بالتصوير، فقدت حياتها وعمرها 24 عاما.
ما يثير الانتباه أن حريق برج غرينفيل ليس الأول من نوعه، وإن كان الأضخم بلا شك، إذ سبق أن تعرض مبنى في جنوب لندن لحريق في عام 2009 أدى إلى مقتل ستة أفراد. ووقع الحريق في مبنى تابع أيضا لإحدى بلديات لندن. وانتهى التحقيق في أسباب وقوع الحريق إلى ضرورة مراجعة إجراءات السلامة والأمان في كافة الأبراج في لندن، وهو ما لم يحدث منذ عام 2009 حتى وقعت كارثة برج غرينفيل في عام 2017.
تبرز هذه الأبراج، التي تمتلكها بلديات لندن، التفاوت الصارخ في الدخل ومستويات المعيشة داخل العاصمة البريطانية. وعلى سبيل المثال يقع برج غرينفيل في أحد أغنى أحياء لندن، وهو حي كينسينغتون وتشيلسي، حيث تقدر أسعار المنازل بالملايين، ويسكن فيه الكثير من رجال الأعمال ومديري الشركات الكبرى. ولكن على هامش الحي تقع أبراج الفقراء التي تسكنها غالبا الطبقات العاملة، وتعيش نمطا من الحياة يختلف كليا عن نمط حياة سكان حي تشيلسي. وتظهر الحياة في تشيلسي صورة عالمين منفصلين لا يجمعهما إلا الجوار الجغرافي.
تبقى الهوة الواسعة بين الفقراء والأغنياء في بريطانيا من أكبر المشكلات التي تواجه المجتمع البريطاني. إذ أوضحت دراسة نشرتها مجلة الأيكونوميست أن مداخيل 10 بالمئة من أصحاب أعلى الأجور في بريطانيا تبلغ 12 مثيلا لمداخيل 10 بالمئة من أصحاب أقل الأجور. بتعبير آخر لو كان دخل 10 بالمئة من منخفضي الدخل في بريطانيا هو ألف جنيه إسترليني شهريا فإن دخل 10 بالمئة من الأثرياء يبلغ 12 ألف جنيه إسترليني شهريا.

كما أن الفجوة بين ما يحصل عليه 1 بالمئة فقط من السكان، وبين باقي المجتمع هي الأكبر في الولايات المتحدة الأميركية بين الدول الصناعية الكبرى، تليها بريطانيا. وهذا يعني أن بريطانيا بها أوسع فجوة بين الفقراء والأغنياء بين الدول الرئيسية في أوروبا، ومن بينها فرنسا وألمانيا.
ولا شك أن هذه الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء لها نتائج سياسية واجتماعية كثيرة. وعلى سبيل المثال صوتت لندن، التي تضم أعدادا كبيرة من المهاجرين، لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي خشية فقدان الوظائف وتراجع فرص العمل بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. كما صوتت أكثرية الدوائر الانتخابية في لندن لصالح حزب العمال في الانتخابات البرلمانية الأخيرة رفضا لتخفيض برامج المساعدات الاجتماعية التي يتبناها حزب المحافظين، وأملا في المزيد من الدعم للتعليم مثل ما وعد به جيرمي كوربن زعيم حزب العمال من إلغاء لرسوم الدراسة الجامعية. لكن الأسوأ هو ارتفاع معدل الجرائم في الأحياء الفقيرة في لندن، وشعور قطاع واسع من الشباب بها بالتهميش والتجاهل، وهو أحد أهم أسباب التطرف والتشدد بين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين.
هذا الشعور بالتجاهل والتهميش انفجر بعد مأساة برج غرينفيل في صورة مظاهرات تطالب بالتحقيق في ما حدث، وغضب عام من الإهمال والتقصير اللذين تعاني منه أبراج الفقراء في لندن، والتحذير من محاولة التغطية على المسؤولين عن الكارثة، كما قال النائب عن حزب العمال ديفيد لامي، الذي كان صديقا لخديجة ساي التي فقدت حياتها في الحريق. تحدث لامي وهو يبكي عن مشاعره بعد أن اختطفت ألسنة النيران حياة خديجة وأمها في منزلهما.
وقال لامي إنه لا يجب أن يحدث هذا في لندن في عام 2017. ولكنه حدث، ووقع قبلها عام 2009، وكل ما يتطلع إليه فقراء لندن أن تكون الحكومة جادة هذه المرة، وألا تتركهم يعانون في صمت.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: