الغيرة عنوان تملّك وليست عنوان حب
يرتبط مفهوم الغيرة بخلط كبير وتداخل في المفاهيم سببهما تفضيل أغلب النساء المغربيات وقسم من الغربيات أن يكون شركاؤهن غيورين عليهنّ كدليل على حبهم لهن، في المقابل تختلط الحقائق في أذهان بعض الرجال لتتحول الغيرة لديهم إلى غيرة مرضية قاتلة وهو نوع من الغيرة المفرطة يُفسر دائما بأنّه ناجم عن ضعف ثقة الرجل في نفسه وخشيته من منافسة ذكور آخرين على أنثاه.
يقاس الحب بالغيرة، وهو شعور بات هاجسا في ضمير المغاربة نساء ورجالا، “هو يغار عليّ لشدة الحب”، “هو يمنعني من الخروج لشدة غيرته عليّ”، “هو يجبرني على الحجاب لشدة غيرته (حبه) عليّ”، “هي تراقب تصرفاتي لأنها تغار عليّ، هذا يعني أنها تعشقني”، “هي تغار عليّ حتى من أختي”!
أمست عبارات كهذه جزءا من معجم العلاقة بين الرجل والمرأة، حبا وعشقا وزواجا، وهي تبرر في العادة كثيرا من المفاهيم تحت عنوان “الغيرة سببها الحب”.
وهناك خلط كبير في مفهوم الغيرة، وتداخلٌ عجيب وتباعد لحد الافتراق بين الثقافات والحضارات حول موضوعها، فالمفهوم يتداخل مع الحسد، وعند الغربيين وشعوب أخرى لم يعد للغيرة بمفهومها المغربي (غيرة الرجل على أيّ امرأة تخصه) أيّ وجود، وما عادت تتحكم في العلاقات بين الجنسين.
وتعدّ الغيرة المغربية التي تحكم علاقات الرجال بالنساء في عالمنا عادة، فالغيرة المختلِطة بالرابطة الجنسية تقارب غريزة الحيوانات في تنافس الذكور على الأنثى وبالعكس بشكل أقل، وهو مفهوم بدائي في تاريخ البشرية ويقود غالبا إلى جرائم يرتكبها الذكور بحق الإناث بما يعرف علميا باللغة اللاتينية بـ”uxoricide” مقابل الجرائم التي ترتكبها الإناث بحق الذكور المرتبطين بهنّ بعلاقات جنسية والتي تعرف بـ”marticide” والتي تنخفض نسبتها بمقدار كبير بالنسبة إلى جرائم الغيرة الذكرية.
تعتبر الغيرة الذكرية توجها ينزع للدفاع عن الثقة الأبوية بالسلطة والهيمنة وقد نمت غالبا عبر تجارب الانتخاب الطبيعي التي مرت بها الأحياء عبر الملايين من السنين، وأصل تلك الغريزة خوف الذكور من اختلاط الأرحام وتداخل المياه وسيلان الأنساب، بما يجعل ذرية من غير أصلابهم تنمو وتترعرع في أكنافهم، وهو ما يعدّ حيفا اقتصاديا بالدرجة الأولى بحقهم، فالمرء لا يريد أن يكتشف بعد أن آل بنوه وبناته إلى سن البلوغ أنّ الأوسط منهم -على سبيل المثال- ليس ابنه، وتنشر الصحف الغربية مفاجأة كبيرة لرجال اكتشفوا بعد 30 سنة زواج، أنّ أبناءهم لم يتحدّروا من أصلابهم.
ولذا، حين يقترب رجل ما من امرأة تسير برفقة رجل في شارع عام أو حتى ينظر إليها نظرة رغبة، تتحفّز لدى الأخير غريزة الغيرة الدفينة في عمق وعيه، وينظر إلى المقارب على أنه عدوّ محتمل قد ينتهك حرمة منطقة نفوذه الجنسي (حتى حين تكون المرأة المرافقة، أخته أو أمّه أو بنت عمه أو قريبته).
وتطور الأمر إلى النخوة المغربية وهي غيرة الرجل على كل امرأة تسير معه في الشارع أو ترافقه إلى مكان عام، وهكذا فإنّ الموظف أو طالب الجامعة الذي يسير مع زميلته في الشارع، يعتبر نفسه مسؤولا أخلاقيا عن حمايتها من التحرّش ومن مقاربات الذكور الآخرين، حتى إذا لم تطلب من الرجل الذي يرافقها حماية، وإذا رغبت هي في مغازلة أحد الرجال فسوف يعتبر الأمر إهانة جارحة لكرامته ورجولته. الحيوانات تؤشر مناطق نفوذها الجنسي (الغيرة) بالبول عادة.
بسبب تداخل المفاهيم في وعي الذكر نفسه، واختلاط الحقائق بالخيال بالهوس والوهم، تتحول الغيرة الحميدة إلى غيرة مرضية تعرف طبيا بمتلازمة عطيل، وبالإنكليزية Morbid jealousy، وهو نوع من الاضطراب النفسي الناجم عن شكوك الزوج (غالبا) أو الحبيب أحيانا بسلوك شريكته في الحياة، ما يولّد لديه هاجسا مقيما يدفعه لمراقبة المرأة التي يحبّ وحساب حركاتها وسكناتها والتضييق عليها، متسرعا دائما في الحكم على أفعالها، ومبررا ذلك برغبتها في ذكر آخر غيره، ما يدفعه في النهاية إلى ارتكاب عمل عنيف بحقها أو بحق من يظنه شريكها، ومن هنا جاء وصف الحالة بـ”متلازمة عطيل”.
الغيرة التي تحكم علاقات الرجال بالنساء عادة، فالغيرة المختلطة بالرابطة الجنسية تقارب غريزة الحيوانات في تنافس الذكور على الأنثى
وفي التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك، قد يكون أقربها وأشهرها قيام بطل سباقات بارا أولمبيك أوسكار بستوريوس منتصف عام 2013 بقتل صديقته ريفا البالغة من العمر 29 عاما عمدا بسبب غيرته عليها وشكوكه المفرطة في أنّها تخونه مع رجال آخرين، وقد وصف فعله للمحكمة باكيا “لقد قتلت ريفا، عليّ أن أقضي حياتي مع هذه الحقيقة، بوسعي أن أشمّ رائحة دمها، وأحس بدفئه على كفي” كما نقلت عنه صحيفة ديلي ميل البريطانية بعد نقله من السجن إلى الإقامة الجبرية في منزله.
كما تحوم شكوك كثيرة حول مقتل الأميرة ديانا زوجة وليّ العهد البريطاني الأمير تشارلز الأولى بسبب علاقتها بعد طلاقها مع جرّاح القلب البريطاني-الباكستاني الشهير حسنت خان، وعلاقتها بالثري العربي دودي (عماد) الفايد الذي قُتل معها في حادث السيارة الغامض سنة 1997، ويعتقد كثيرون حتى اليوم أنّ مقتلها مدبّر وقد يكون ناتجا عن الغيرة.
المثال الشهير الآخر هو المبارزة التي قُتل فيها الشاعر الروسي بوشكين، بسبب شكوكه في وجود علاقة بين جورج دانتس الضابط الفرنسي المعادي للثورة الفرنسية الذي انضم إلى حرس القيصر وبين زوجته الجميلة ناتاليا نيكولايفنا. واتخذت الجريمة بعدا سياسيا حين أمر القيصر الروسي باستبعاد الضابط الفرنسي المعارض من حرسه الخاص بسبب الفضيحة التي ترتّبت على المبارزة القاتلة.
لكنّ هذا النوع من الغيرة المفرطة، يُفسر دائما بأنّه ناجم عن ضعف ثقة الرجل في نفسه وخشيته من منافسة ذكور آخرين على أنثاه.
أما النساء، فأغلب المغربيات وقسم من الغربيات، يفضلن أن يكون شركاؤهن غيورين عليهنّ، ولكنهنّ يردن طبعا أن تبقى تلك الغيرة ضمن حدود المعقول ولا تكون سببا لتدمير حياتهن.
وتراود المرأة المغربية حين لا تلمس غيرة الزوج عليها، مشاعر بأنه لا يحبها، وتشعر أنّ علاقتهما تسير إلى النهاية، وهذا ما يحدث غالبا في مثل تلك الحالات. وفي هذا الاتجاه، يحبّ الرجل المغربي أن يرى زوجته شديدة الغيرة عليه، ويتعمد أن يثير غيرتها، بإشاراته وغمزاته إلى نسوة أخريات حتى من باب المزاح أحيانا.
ويمضي بعض الرجال إلى أبعد من ذلك، فيتعمدون مغازلة نسوة أخريات بحضور زوجاتهن ليثيروا غيرتهن، أو أنّهم “يبصبصون” إلى الأخريات بما يعرف في العالم العربي “بعين الرجل زايغة”. هذه المشاعر بهذه الطريقة تتخذ غالبا طابعا مرضيا، ويُفسر إكلينيكيا بأنّه شعور بالنقص من جانب الرجل.
المرأة المغربية حين لا تلمس غيرة الزوج عليها، تراودها مشاعر بأنه لا يحبها، وتشعر أن علاقتهما تسير إلى النهاية
وإلى ذلك كتبت ليزا ميرلوبووث المتخصصة في علم الاجتماع في موقع “ستريت 4 ومين” المتصل بعالم المرأة “حين تظهر على الرجل، أو المرأة، رغبة مستمرة في الغزل مع غير شركائهم، أو البصبصة، فهي مؤشر أنّهم غير أهل للثقة، ويسعون إلى لفت انتباه الآخرين بشكل مرضي، وهو ما يولّد في دواخلهم حاجة مستمرة للحصول على إشارات التشجيع والثقة من الجنس الآخر بما يدعم ثقتهم بأنفسهم. هذا الشعور يولد إحساسا مدمرا بالإقصاء لدى شركائهم، وينمّي في دواخلهم شعورا بالتضاؤل والصغر قد يكون حلُّه الوحيد إنهاء العلاقة مع الشريك إلى أبد، وإلا قد يصل الوضع إلى نتائج مأساوية مقرونة بالعنف”.
وتعد الحقيقة المرّة هنا، أنّ هذا أسلوب يتبعه الرجل المغربي والعربي ليُشعر زوجته أنّه مرغوب مطلوب، وأنّ حياتها معه معرّضة لمنافسة شديدة، ومن الأفضل لها أن تبذل قصارى جهدها للمحافظة عليه، وإلا خطفنه منها إناث أخريات. القوانين والتشريعات الغربية تحدّ كثيرا من هذه الممارسة الذكورية التعسفية، لكنّ القوانين وتقاليد المجتمعات الشرقية تدعم توجه الذكور غالبا، ما يجعل حياة الملايين من النسوة جحيما مستمرا.
المرأة بعد الأربعين تبحث عن الحماية
لا يعدّ الشعور هنا عاطفيا بالمرة، بل تملّكيا، وهو قائم على رغبة الرجل في بسط سلطته على النساء في محيطه بقصد إلغاء شخصياتهن وجعلهن أقمارا تدور في فلكه (حتى إن لم يكنّ زوجات له)، ويمكن أن يفسر كلُّ هذا رغبة كثير من الرجال بتعدد الزوجات، لكنّ عجزهم عن الإيفاء بالتزامات الزواج المالية يمنعهم من تحقيق تلك الرغبة.
وقد توسّع في هذا الوصف مقال كتبه البروفيسور رونالد ريغيو وظهر في موقع “سايكولوجي توداي” عام 2012 مبيّنا أنّ رغبة الذكور في الهيمنة متصلة حتى بطريقة نظرهم باتجاه النساء، فالرجل ينظر في عين المرأة، فيما تفضل أغلب النساء أن ينظرن إليه حين يكون مشغولا بالنظر إلى جانب آخر.
وفسّر خبير علم النفس النمساوي فريتز دشتر ذلك برغبة من عصر الإقطاع في لا وعي الرجل، ثم عاد ليقول إنّ “المرأة بعد الأربعين تبحث عن الحماية، وترضى أن تكون بشكل ما مملوكة للرجل ليوفّر لها حياة هانئة بعد أن يكون الشباب والجمال والنجاح المهني قد بدأ يغادرها”.
هذا التملك بحد ذاته مبني على الغيرة، وها نحن نعود إلى حيث بدأنا، هل الغيرةُ علامةُ حب، أم عنوان تملّك وإلغاء للحرية؟