من الدوحة إلى يثرب، أو الهجرة المستحيلة
قطر تقتدي بالنموذج الإسرائيلي في العزلة والمشاغبة وتتلاعب بالإخوان المسلمين ويتلاعبون بها، وتبتز المنطقة بإيران وتركيا وتغري العالم بالمال.
تقف قطر وهي تجمع المتناقضات. تستضيف أكبر قاعدة أميركية، وتريد أن تقلد النموذج الإسرائيلي في العزلة والمشاغبة، وتتلاعب بالإخوان المسلمين ويتلاعبون بها، وتبتز المنطقة بإيران وتركيا، وتغري العالم بالمال. تناقضات تراهن من خلالها للحصول على مكانة لا تستحقها ودور أكبر من حجمها.
منذ استيلاء الشيخ حمد آل ثاني على الحكم في قطر وبداية مغامرته السياسيّة، والخليجيون والعرب يتساءلون عن مواقف قطر محاولين إخضاعها إلى أنساق المنطق السياسي وربطها بالواقع المعيش للمنطقة وللعالم. ونتيجة لتعنت هذا السلوك وإفلاته من كلّ أشكال العقلانيّة، أضحى النّاس في حيرة من أمرهم أمام هذا اللّغز المبهم والمنغلق حتّى على المحلّلين السّياسيين غير القادرين على إدراك الغائيّة السياسيّة لهذه الدولة والقائمين على إدارتها.
وسوف أحاول في هذه المقالة أن أدلي بدلوي في تفكيك هذا السلوك وإعادة تركيبه علّني أسهم في الكشف عن المقاصد الملفوفة في غلالة ما قد يبدو عبثا سياسيا يستعصى على التحليل.
في البداية يستوجب وضع لائحة عن بعض الأفعال التي قامت بها قطر بعد استتباب الأمر للشيخ حمد على العرش القطري:
أنشأت قطر قناة الجزيرة الإخباريّة وأنفقت عليها أموالا طائلة حتّى استفردت في السنين الأولى بالمشهد العربيّ، وعلى الأخصّ في حرب العراق وما بعدها. وأضحت ذراعا إعلاميّة خطيرة استعملتها قطر في أحيان كثيرة وسيلة ابتزاز للأنظمة العربيّة. واستطاعت بواسطتها خلق نفوذ ناعم كبير حتّى تبدّت أكثر تأثيرا من الدولة نفسها.
والجدير بالملاحظة أنّ هذه القناة لها مفرداتها الخاصّة لتلوين الأخبار أيديولوجيا وزفّها إلى الأذن العربيّة في ثوب من الحياد المخادع.
فعلى سبيل المثال لم يستعمل مذيعوها كلمة “الإرهاب” واستعملوا الصيغة المشككة “ما يسمّى الإرهاب”. ولعلّ المشاهد العربيّ يتذكّر خروج مذيعي ومذيعات القناة بلباس الحداد يوم مقتل أبي مصعب الزرقاوي وإظهاره كبطل من أبطال الأمّة الإسلاميّة.
قطر تحتاج أن تستولي على رأس المال البشري والمعنوي لدولة عربية سنية رئيسية وكان الهدف هو السعودية
تآمر النظام القطري مع النظام الليبي ضدّ الدولة السعودية وذلك بتمويل حركات يمنية مناهضة للمملكة وبمساعدة بعض الشخصيات المعارضة لها حتّى وصل الأمر إلى محاولة اغتيال الأمير عبدالله بن عبدالعزيز وليّ العهد السعودي في حينها والملك لاحقا. وقد أظهرت التسجيلات بين معمر القذافي والشيخ حمد، والتي تسربت بعد سقوط النظام الليبي حجم هذا التآمر ومراميه وكان هدفه إسقاط النّظام الملكي وتقسيم الدولة.
احتضنت الدولة القطرية حركة الإخوان المسلمين وشيخها يوسف القرضاوي وساندتهم بالأموال والتأييد الإعلامي وسعت إلى إطلاق سراح سجنائهم في ليبيا ومكّنتهم من امتطاء ما يسمّى بالربيع العربي وأوهمت العالم بأنهم قادته ومحرّكوه. وكادت تحقق هذا الحلم لو لم تتحرّك النخب البورقيبيّة في تونس ولم يتحرّك الجيش في مصر لإسقاط هذا المشروع.
فتحت قطر ومنذ وقت مبكّر قناة تواصل مع عصابة طالبان ثمّ شيئا فشيئا فتحت لهم مكتبا في الدوحة موحية للغرب بأنّها تفعل ذلك بدعوى مساعدته على احتواء الحركة.
دفعت قطر مبالغ ماليّة ضخمة لجبهة النصرة، أي تنظيم القاعدة، وكانت بعض هذه الأموال تدفع علانية وعلى رؤوس الأشهاد بدعوى تحرير أسرى ورهائن اختطفتهم هذه الجبهة، وكانت لعبة مفضوحة ظاهرها عمل إنسانيّ وباطنها دعم للإرهاب.
أعطت الولايات المتحدة أكبر قاعدة عسكريّة في المنطقة وكان الهدف منها الإيحاء للأميركان بأنّها الدولة الوحيدة في المنطقة التي يمكن الاعتماد عليها وليست السعودية التي طلبت من الأميركيين المغادرة بعد تحرير الكويت. ولم يكن دافع قطر من كل ذلك حماية دول الخليج، وإنّما إرهابها ومنعها من التحرّك ضدّها مهما فعلت ضدّ مصالحهم.
عندما قفز الإخوان المسلمون في عربة الربيع العربيّ وهيمنوا على لجام جيادها، اكتشفت قطر أنّ ثمّة شخصا آخر ينافسها على القيادة وهو رجب طيّب أردوغان الإخواني الذي يحلم بالسلطنة. فعقدوا معه تحالفا لاقتسام الغنائم ولمساعدتهم في السيطرة على تلك البلدان التي عصفت بها الفوضى.
ناصرت قطر الحكومة الإخوانيّة في قطاع غزّة “حماس” وشجّعتها على الإبقاء على حالة الانقسام في الصفّ الفلسطيني وتعميق الانشقاق بين مناضليه كما استغلّت حماس من أجل خلق الاضطرابات في مصر بعد سقوط حكم الإخوان وربّما كان لها هدف آخر هو ردّ الجميل لإسرائيل التي نصحت قطر بلعب دور سياسيّ على مستوى المنطقة والعالم معلّلة ذلك بأنّ حجم الدولة وسكّانها لا يقف عائقا أمام القيام بأعمال كبرى. وضربت لها مثلا بدولتها التي برغم صغرها سكانيا وجغرافيا قد استطاعت أن تهزم ثلاثة جيوش عربيّة في نفس الوقت وربّما كانت هذه النصيحة القاتلة هي ما حدا بقطر أن تجعل من بلدها “غيتو” معزولا يناصب العداء لكل جيرانه.
قامت قطر بتشييد مسجد كبير أطلقت عليه اسم الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وقد ادّعى الأمير حمد بأنّه حفيد لهذا الشيخ ليضرب عصفورين بحجر واحد: فهو بهذا الادعاء يريد تقاسم رأس المال الرمزي للحركة الوهَّابية مع السعودية ومن جهة أخرى يريد إرضاء أفراد من عائلته يعتبرون أنفسهم جزءا لا يتجزأ من هذه الحركة الدعويّة.
ولكن الشيء الذي فات الأمير حمد هو أنّ محمد بن عبدالوهاب لم يكن غير صاحب قلم ودعوة وأن ظلال سيوف آل سعود هي التي رسمت الحدود السياسية للمملكة، لذلك فإنّ هذا الادعاء سلاح ذو حدّين قد يصيب من يلعب به في مقتل في أيّ لحظة تختلّ فيها التوازنات الإقليميّة والاستراتيجيات الدولية.
أقام النظام القطري علاقات مع إيران، ويكفينا منه ما هو في العلن. وتعلم قطر أنّ نظام الملالي لا يحلم إلاّ بإقامة إمبراطوريّة فارسيّة، وإنما أطلقوا عليه الهلال الشيعي الذي سيصير بدرا كاملا من باب الأطماع القوميّة المختفية تحت جلباب مذهبيّ، وأوّل المتضررين من هذه الأطماع سوف تكون دولة قطر.
ألا يدرك حكّام قطر هذا؟ أعتقد أنهم يعرفون تماما كلّ هذا ولكنّهم يريدون أن يستعملوا النظام الإيراني تكتيكيا، معتقدين أنّه ليس اللّعبة وإنّما هو جزء منها. وحريٌّ بهم أن يقرؤوا بيت المتنبي:
ومن يجعل الضرغام بازا لصيده تصيّده الضرغام فيما تصيّدا
بعد استعراضنا لهذه السياسات القطريّة، قد يتبيّن للوهلة الأولى عدم تماسكها. غير أنّ إمعان النظر فيها يكشف لنا عن سياسات اتّخذت بوعي كامل وبمكيافيليّة عزّ نظيرها في تاريخ المنطقة. فكلّ هذه السياسات تتضافر من أجل تحقيق غاية قصوى يراد بها تغيير وجهة التاريخ وخلق واقع جديد سياسيا وأيديولوجيا وجغرافيا. إنّهم يمضون إلى الأمام بثبات، ورؤوسهم تتّجه إلى الخلف.
وحتّى نتمكّن من توضيح هذه الاستراتيجية القطريّة المعقّدة، يجب أن نجمل النقاط سالفة الذكر في ثلاث مجموعات متجانسة:
أولا: أخذهم بالنصيحة الإسرائيلية يجعل قطر “غيتو” قويا، وهذا يتطلب العداء المستدام وخلق حالة قارّة من التوتر مع دول المنطقة.
ونتيجة لكون قطر لا تملك رأس المال البشري الكافي لصدّ تداعيات سلوكها التخريبي في محيطها الجغرافي، كان لزاما عليها أن تستقدم قوّة أجنبية على أراضيهاللاستقواء على الآخرين.
كما قامت قبل ذلك بإنشاء قناة الجزيرة لاستعمالها في ابتزاز الدول الأخرى وردع أيّ محاولة تستهدف تحجيم دورها الخليجي والعربي باستضافة كل المعارضين لهذه الأنظمة.
ثانيا: التحالف مع تنظيم الإخوان المسلمين صاحب الأيديولوجيا العابرة لحدود الدول الوطنيّة والذي يسعى إلى إقامة خلافة. كما تحاول قطر الاستيلاء على ميراث الحركة الوهابيّة من خلال الادّعاء بروابط بيولوجيّة ووشائج فكريّة وهو استحواذ على الحركات الإسلامية نضالية ودعويّة.
ثالثا: من أجل غاياتها كان لا بدّ لقطر من التحالف أو السيطرة على دولة سنيّة كبيرة فتحالفت مع تركيا أردوغان والذي يعاني من هوس إحياء سلطنة آل عثمان. وحاولت الاستيلاء على مصر من خلال حركة الإخوان المسلمين، وعندما فشلت في ذلك بفضل الجيش المصري رمت بكلّ ثقلها للاستيلاء على ليبيا بخلق حالة عدم استقرار في مصر تمهيدا لعودة الحكم الإخواني.
حكام قطر يريدون أن يستعملوا النظام الإيراني تكتيكيا، معتقدين أنه ليس اللعبة وإنما هو جزء منها.وحري بهم أن يقرؤوا بيت المتنبي: ومن يجعل الضرغام بازا لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا
الآن نحاول الإجابة عن السؤال: لماذا تغامر قطر بأموالها وأمنها وتحشد كل إمكانياتها المتاحة ومن أجل أيّ هدف؟ الجواب هو أنّ الأمير حمد وابنه تميم قد تلبستهما أيديولوجية الخلافة الإسلاميّة وأنّهما يعتقدان إلى درجة اليقين أنّهما الخلفاء القادمون. وهذا الوهم قد بثّ في أذهانهم من حركة الإخوان المسلمين التي تستعملهم وتستعمل دولتهم كوكر آمن للانقضاض على المسلمين.
ولكن ما هي سمات هذه الخلافة التي يريدون إقامتها في القرن الحادي والعشرين؟
أولا: هذه الخلافة يجب أن تكون عربيّة سنيّة لا خلافة أعجمية كخلافة آل عثمان أو الخلافة العباسيّة التي سيطر عليها الأعاجم أو خلافة فاطميّة شيعيّة كالتي قامت في الشمال الإفريقي.
ثانيا: إن مركز الخلافة يجب ألاّ يكون القاهرة أو بغداد أو إسطنبول أو دمشق وإنّما مدينة الرسول، “المدينة المنوّرة” لما لها من قدسيّة عند المسلمين وهذا لا يتأتّى إلّا بإزاحة آل سعود.
ثالثا: لا بدّ من الاستيلاء على السعودية، الدولة الخليجيّة، لما تملكه من ثروات طبيعيّة تكفل للإخوان وحكّام قطر إقامة ملك عضوض.
هذه باختصار أحلام التحالف القطري الإخواني. وبالرغم من معرفتنا بأنّ التاريخ لا يعيد نفسه إلّا بشكل هزليّ كما يقال، فإنّ كمّا من المحن والخطوب والمآسي حدث على مدار التاريخ عندما لا يؤخذ ذلك الهزل المرضي على محمل الجد .