نصف انتصار لماكرون نصف هزيمة للوبان
الضربة القاصمة لليمين المتطرف لم تحصل، انتصر ماكرون بهامش معتبر ولكنه في المحصلة فاز بالنقاط بنصف انتصار، وفي المحصلة أيضا رسملت الجبهة الوطنية خزانا انتخابيا كبيرا.
انهزمت مارين لوبان ولم ينكسر المشروع اليميني المتطرّف. فاز إيمانويل ماكرون ولم يحسم مشروع التعددية الثقافية والإثنية الحرب مع قوى التقوقع الهوياتي. كان من الواضح للغاية أن المناظرة الأخيرة التي جمعت مرشحة اليمين المتطرف لوبان بالمرشح الوسطي ماكرون، كانت أقرب للمساجلة السياسية بين الرئيس المفترض ورئيسة المعارضة البرلمانية، أكثر من كونها كانت مكاسرة حول البرنامج والمشاريع.
وكان من الجليّ أيضا أنّ لوبان كانت تسعى إلى تحسين رصيدها الانتخابي لدى خزانها الاقتراعي استعدادا للاستحقاق النيابي في الجمعية العامة الفرنسية التي تريدها الأخيرة تتويجا لمسار تطبيع الجبهة الوطنية مع الجمهور الانتخابي وتحويلها إلى رقم صعب ضمن معادلة الحكم.
تقول القاعدة السياسية الفرنسية إنّ الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية هي الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية، وهو بالضبط ما عملت على تأصيله لوبان خلال حملتها الانتخابية الرئاسية. حشد للأصوات في المناطق الريفية والمدن الصغرى حيث الاحتكاك المباشر مع المقترعين، مع تقديم وجوه سياسية جديدة للرأي العام الفرنسي من بينها تلك ذات الأصول العربيّة.
تدرك الجبهة الوطنية جيّدا أنّ توظيف واستثمار الانتخابات البرلمانية أفضل من حيث هامش المناورة مقارنة بالانتخابات الرئاسية النهائية، فلئن مثلت الكتلة الجمهوريّة تحالفا نسبيا ضدّها لصالح ماكرون، فإنّ هرولة الأحزاب السياسية، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي والجمهوري سعيا للتخفيف من خسارة “الرئاسيات”، لن تصبّ في سلّة حزب “إلى الأمام” لإيمانويل ماكرون.
هنا تشير التقديرات إلى أنّ حزب ماكرون سيحصد 22 بالمئة في الانتخابات البرلمانية، فيما ستحلّ الجبهة الشعبية في المرتبة الثانية صحبة الحزب الجمهوري بـ20 بالمئة، وأقصى اليسار- الذي سيمثله جون لوك ميلينشون- بنحو 19 بالمئة.
صحيح أنّ التقديرات هي استنساخ للدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية، ولكن الأصح هنا أن الجبهة الشعبية باتت تقريبا المنافس الأول لحكومة ماكرون فيما حال التحالف مع الجمهوريين وهو الأكثر فرضيّة أو التعايش مع الجمهوريين واليساريين معا وهو الأبعد.
بعيدا عن حالة الاحتفاء بشخص ماكرون، حيث تزاوج عوامل الشباب والنجاح والوسامة والقدرة على صنع النموذج والقدوة لشباب يعاني من البطالة وانسداد الآفاق في معظم دول العالم، وهنا يتماثل ماكرون كثيرا مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فإنّ مسحة من الخشية والتوجّس انسحبت على معظم الدول الأوروبية على الرغم من انتصار ماكرون وجرعة من التفاؤل وشحنة من الاعتزاز تدفقتا إلى شرايين اليمين المتطّرف في القارة العجوز على الرغم من هزيمة لوبان.
كان أنصار الجمهورية الفرنسية ينتظرون ضربة قاضية في الجولة الثانية تضع اليمين المتطرف على هامش العمل السياسي كتلك التي مني بها في انتخابات 2002، حيث انتصر جاك شيراك بنسبة تجاوزت الـ80 بالمئة، فيما حصل جون ماري لوبان على حصة لم تتجاوز 18 بالمئة من الأصوات.
وهي الضربة الموجعة التي أفضت بجون ماري لوبان إلى الخروج من الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في العام 2007 بحصة اقتراعية فقيرة ناهزت 10 بالمئة فقط.
الضربة القاصمة لليمين المتطرف لم تحصل، انتصر ماكرون بهامش معتبر ولكنّه في المحصلة فاز بالنقاط بنصف انتصار، وفي المحصلة أيضا رسملت الجبهة الوطنية خزانا انتخابيا كبيرا يقرب على الأربعين بالمئة من جملة المصوتين، بنصف هزيمة.
15 سنة فقط، كانت كفيلة بتغيير ملحوظ في مسلكية التصويت وميكانيزمات الاقتراع وطرائق الإقناع والاقتناع، في العام 2002 كانت أقلية تقدّر بالخمس تدعم الجبهة الوطنية المتطرفة، أمّا اليوم فإنّ شبه أكثرية -ما بين الثلث والنصف- باتت تصطفّ وراء مقولات اليمين الهوياتي المتعصّب وأيديولوجيات الأطروحات المنغلقة.
الملاحظ أنّ صعود اليمين المتطرّف، والذي يعتبر صعودا مؤسسا ومستمرا لا كما ينظر بعض أصحاب المقولات التبشيرية بأفوله السريع، تزامن مع ظهور حزب المقاطعين أو حزب الأوراق البيضاء.
ذلك أنّ إحصاء نحو 4 ملايين ورقة بيضاء يؤشر إلى معضلة سياسية واتصالية تعاني منها الأحزاب الفرنسية، وهو تصويت احتجاجي وعقابيّ لكافة الفاعلين السياسيين الذين عجزوا عن إيجاد البدائل الحقيقية والحلول الملموسة لشريحة واسعة من الشعب الفرنسي ترفض السياسيين وتشجب خطابهم وأطروحاتهم، ولكنها تبقى متعلقة بالعمل والفضاء السياسيين كإطارين لصناعة البديل وفق سياق الممكن.
امتحان ما بعد الانتخابات الرئاسية سيكون أكثر صعوبة على إيمانويل ماكرون من محنة ما قبل الاستحقاق الرئاسي، فالحصول على حزام سياسي في الجمعية العامة عملية صعبة في ظل صعود أقصى اليمين وشعبية أقصى اليسار، وضعف اليسار الكلاسيكي وابتزاز اليمين الجمهوري.
فهل سيجيد ماركون لعبة الرقص على الحبال المهتزّة والمشي على الرمال المتحركة، لا سيما وأنّ المراهنين على سقوط الشاب الوسيم كثيرون جدا من داخل فرنسا ومن خارجها أيضا.