الجزائر: حزب جبهة التحرير وتزوير الذاكرة
تصريحات ولد عباس أثارت ردود فعل كثيرة بين أوساط المؤرخين الجزائريين الذين يرفضون توظيف تاريخ حركة التحرر الوطني لاحتكار الشرعية الثورية والنضالية من أجل خدمة أغراض حزبية ضيقة.
الحملات التي تقوم بها الأحزاب الجزائرية بمناسبة الانتخابات التشريعية في الجزائر تبدو أشبه بحلبة صراع الديكة حيث لم تقدم هذه الأحزاب أي برامج تخرج بالبلاد من انسدادها السياسي، ومن أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويرقى بالتالي إلى طموحات المواطنين والمواطنات الجزائريين والجزائريات.
في مثل هذا المناخ وجدنا الأمين العام الحالي لحزب جبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس، يكرر نفس الخطأ الذي ارتكبه من قبل الأمناء العامون السابقون لهذا الحزب منذ الاستقلال ويتمثل في ادعاء هؤلاء أن تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي قد تم على أيدي هذا الحزب، علما أن جبهة التحرير الوطني التي قادت حركة التحرر الوطني لم تكن في ذلك الوقت حزبا له أيديولوجيا محددة، وإنما كانت جبهة واسعة متعددة النزعات حيث ضمت كل الوطنيين المؤمنين بفكرة التحرر الوطني، بغض النظر عن تنوع الانتماءات العقائدية.
اختزال تحرير الجزائر في هذه الفئة أو في تلك أمر غير مطابق للوقائع التاريخية التي أكدت أن الذي حرر الجزائر هو الشعب الجزائري، والدليل على ذلك أن نسبة 90 بالمئة من المليون ونصف المليون شهيد لم يكونوا أعضاء في أي تشكيل سياسي، بل كانوا مواطنين بسطاء اختاروا النضال المدني والمقاومة المسلحة في سبيل الوطن.
وهنا نتساءل لماذا يصر الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني على القول إن من حق حزبه أن يحكم البلاد بدعوى أنه هو من حرر الجزائر؟ ثم لماذا لا يقبل حقائق الواقع السياسي الجزائري الذي هو واقع التعددية الحزبية وليس واقع الحزب الواحد؟ ألا يكفي حزب جبهة التحرير الوطني ما ترتب من المآسي جراء انفراده بالحكم الدكتاتوري على مدى سنوات طويلة؟ ولماذا لا يتعظ أمين عام جبهة التحرير من التجارب القاسية الناتجة عن احتكار الحكم والذي فرخ الأزمات المركبة وشتى صور الفشل الشامل على مستوى الحياة السياسية والتنموية.
لا شك أن الترويج للأسطورة المفبركة التي يرى أصحابها أن حزب جبهة التحرير الوطني هو بالضبط جبهة التحرير الوطني التي حاربت الاستعمار هو سلوك ناتج عن خلط للأوراق مبيّت وتزييف للتاريخ.
إن الهيكل العام لجبهة التحرير الوطني كمظلة وطنية تأجلت في ظلها وبنسب مختلفة التناقضات والاختلافات السياسية أثناء حركة التحرر الوطني الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، قد انتهى عمليا بعد الاستقلال. أما حزب جبهة التحرير الذي أنشئ بعد الاستقلال وحوّل إلى واجهة لحكم الجيش والأجهزة الأمنية، فليس سوى مجرد كيان تميز بالسياسات المركزية المطبقة والصادرة عن الحاكم المستبد المنفرد بالسلطة.
أما علاقة هذا الكيان بجبهة التحرير الوطني فليست سوى علاقة تضاد، خاصة بعد اعتناق حزب جبهة التحرير للرأسمالية البشعة وتحويله للحكم إلى مزرعة تحتكرها جماعة معروفة بالجهوية وبالفساد وبالجهل الثقافي والفكري.
كيف يمكن أن يقنع الأمين العام لحزب جبهة التحرير الشعب الجزائري بأن حزبه هو الوريث الشرعي لجبهة التحرير الوطني في الوقت الذي نجد فيه هذا الحزب لم يفعل شيئا سوى الإبقاء على المشروع الاستعماري المتمثل في تعميق صور التخلف الفكري والعلمي، وتكريس مجتمع الفوارق الطبقية الصارخة، وتعتيم حقائق الهوية الثقافية الوطنية، واستيراد قوالب التنمية التي تتناقض وروح التحديث، فضلا عن تشويه قيم ومضامين حركة التحرر الوطني التي ناضل من أجلها الجزائريون؟
أثارت تصريحات ولد عباس ردود فعل كثيرة بين أوساط المؤرخين الجزائريين الذين يرفضون توظيف تاريخ التحرر الوطني من طرف هذا الحزب أو ذاك لاحتكار الشرعية الثورية والنضالية من أجل أغراض حزبية ضيقة، كما رفضت بعض أحزاب المعارضة استغلال تراث الشعب الجزائري.