المغرب من بلد عبور إلى بلد إقامة للأفارقة و بلد المغادرة للمغاربة
تتبدد أحلام المهاجرين الذين يقررون العبور إلى أوروبا عبر المغرب على أمواج البحر الأبيض المتوسط، ومنهم من يقضي سنوات يحاول دون جدوى بل منهم من يدفع حياته ثمن هذا الحلم قبل أن يطلق المغرب مبادرة تسوية أوضاعهم القانونية لتصبح إقامتهم شرعية تسمح لهم بتحقيق أحلامهم على أرض أفريقية ليغدو بذلك المغرب بلد إقامة بدل بلد عبور، وفي هذا الخيار تحديات ومصاعب تستدعي جهودا لتذليلها.
عندما قرر المغرب التسوية القانونية للمهاجرين الذين يوجدون في وضعية غير شرعية فوق ترابه، بدأ يتخلص شيئا فشيئا من عقدة “بلد العبور إلى أوروبا” التي التصقت به لسنوات طويلة، وبات قريبا من بلد استقبال واستقرار للمهاجرين.
ولم يتوقف الوضع عند هذا الحد، بل وبتعليمات من الملك محمد السادس أعطيت الأوامر لتتم معاملة المهاجرين معاملة قانونية وإنسانية، من خلال سن قانون جديد يوفر الإقامة للمهاجرين وطالبي اللجوء، وإطلاق عدد من المشاريع لتسهيل اندماجهم داخل المجتمع المغربي وتحسين وضعيتهم الاجتماعية.
وانخرط المهاجرون في تسوية أوضاعهم القانونية، ودخول دورات تدريبية تسمح لهم بالانخراط في سوق العمل الذي يمكنهم من تأمين حياة كريمة بعيدا عن مغامرة الموت إلى أوروبا.
ورغم فسح المجال للتسوية القانونية إلا أن السلطات، سواء في المرحلة الأولى من عملية التسوية التي أجريت خلال عام 2014 أو في مرحلتها الثانية التي تمت قبيل
انتهاء عام 2016، لم تتمكن من الاستجابة لكافة الطلبات التي عرضت عليها، ومع ذلك رأى متتبعون لهذا الملف الإنساني والاجتماعي الشائك أن هناك عددا من المزايا والإيجابيات لمسألة التسوية حتى لو لم تسو الوضعية القانونية لمعظم المهاجرين الراغبين في ذلك، فالمهم أن الملف ظل مفتوحا لتسوية عشرات الآلاف من الطلبات التي تنتظر دورها.
زينب الشاهدي الوزاني معالجة نفسية مهتمة بمجال الهجرة في المغرب، ترى أن القرار الملكي القاضي بتسوية وضعية المهاجرين خصوصا الأفارقة منهم الذين ينحدرون من دول جنوب القارة الأفريقية يحمل في طياته رسالتين أساسيتين، الأولى تتجلى في تسريع إدماج هؤلاء في المجتمع المغربي، والثانية تستهدف عموم المغاربة الذين باتوا مجبرين على أن يألفوا حضور المهاجرين إلى جانبهم في حياتهم اليومية وعليهم أن يتعاملوا معهم بطريقة قانونية؛ سواء في مجالات العمل أو في الفضاءات العمومية.
وتقول زينب “إنها مبادرة تهدف في جوهرها إلى أن ينعم المهاجر بالاستقرار ويشعر بالأمن، إلى جانب استحضاره بأنه أصبح مواطنا يتمتع بكافة حقوقه مقابل ضرورة التزامه بالواجبات التي يفرضها العيش في مجتمع تحكمه قوانين وأعراف”.
ومن بين الحقوق التي يمكن أن يتمتع بها المهاجر أنه بمجرد تسوية وضعيته القانونية يحصل على بطاقة إقامة قابلة للتجديد كل سنة.
وفي هذا الإطار، ورغم إيجابية الحصول على بطاقة الإقامة، تعتقد زينب الشاهدي أن الحصول عليها “لا يعني بالضرورة حل كافة مشاكل المهاجرين، بل لا بد من مواكبة هؤلاء ومرافقتهم لتحقيق الاستقرار الاجتماعي على أرض الواقع”.
وبحكم عملها اليومي في الميدان واحتكاكها المباشر بالمهاجرين، ترى الوزاني أنه من الناحية النفسية فإن “المهاجر يكون عادة في وضعية نفسية حرجة بسبب العوامل المختلفة التي دفعته إلى ركوب سفينة الهجرة وتحمل مشاقها ومخاطرها”.
وتضيف أن أغلب هؤلاء “إما تعرضوا إلى الضغط للهروب من بلدانهم الأصلية بسبب الحروب، وإما تعرضوا للعنف وهم يعبرون طريق الهجرة، بيد أنه قبل الوصول إلى التراب المغربي، ثمة مخاطر عديدة أحدقت بهم سواء تعلق الأمر بالعنف الجسدي أو النفسي أو أحيانا العنف الجنسي الذي تتعرض له المهاجرات على وجه التحديد”.
إنه واقع عاينته الشاهدي من خلال جلسات الاستماع النفسي التي تقوم بها لفائدة هؤلاء في مختلف المناطق خصوصا في شرق المملكة، حيث تتقاطر جحافل المهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء، أو الذين فروا من تداعيات الحروب التي ما زالت تدور رحاها في بلدانهم مثل سوريا أو اليمن.
فالإحساس بالأمان يمكن لا محالة المهاجر من تحقيق الهدف الذي من أجله هاجر ووطأت قدماه التراب المغربي، بمعنى أن مستقبله يصبح واضحا ويزيح عنه غموض مصيره بعد أن اختار الهجرة غير الشرعية، ولم يعر أي اهتمام لما ستؤول إليه أوضاعه في بلد الاستقبال.
إنه تحدي المهاجر الذي قوبل بتفهم السلطات المغربية لهذه المعاناة ولطبيعة المآسي التي حملها هؤلاء معهم رغم قساوة المغامرة.
وفي تقدير الطبيبة النفسانية الشاهدي، فإنه بقدر إيجابيات القرار الملكي الذي قضى بتسوية وضعية المهاجر، بقدر ما ساعد المغاربة على رفع مستوى وعيهم بوجود مهاجرين، وبضرورة قبولهم والتعايش معهم بعيدا عن كافة أشكال العنصرية التي قد يتعرضون لها.
لاجئون وجدوا في المغرب ما لم يجدوه في بلادهم
ففي عدد من الأحياء الشعبية في العاصمة الرباط مثل حي التقدم ودوار الحاجة ودوار الرجاء في الله ويعقوب المنصور والعكاري وغيرها، يتخذ المهاجرون، خصوصا الأفارقة والسوريين، مساكن للاستقرار ويحاولون التعايش مع جيرانهم المغاربة الذين منهم من ينفر منهم بحجة اختلاف اللون، ومنهم من يرى فيهم “منافسين” على سوق اليد العاملة، علما أن أغلب هؤلاء يعملون، بحكم وضعيتهم القانونية، في مجال البناء أو في غسل السيارات ومهن النجارة وفي الأعمال التي تحتاج قوة جسدية وبدنية.
والمهاجرون، الذين مازال أغلبهم في وضعية غير شرعية بسبب عدم التقدم بعد بطلب التسوية، منهم من تمكن من الاندماج الاجتماعي بسرعة، ومنهم من وجد صعوبة في تجاوز النظرة الدونية وعبارات العنصرية التي مازالت تلتقطها آذانهم من بعض الجيران، لذا فهم يفضلون “هجرة” حيهم السكني طيلة اليوم بحثا عن قوت العيش ليعودوا في ساعة متأخرة من الليل للخلود إلى الراحة، بعد يوم مضن مليء بالتسكع بين الشوارع والأزقة بحثا عن عمل أو طلبا لصدقة أمام أضواء المرور في كبرى شوارع العاصمة، فيما ينهمك آخرون في بيع وتسويق منتوجات أفريقية من قبيل الأثواب والأدوية الرعوانية وإكسسوارات التزيين.
الوضع يحتاج تكثيف جهود جمعيات المجتمع المدني المهتمة بأوضاع المهاجرين، من أجل تسهيل عملية إدماج هؤلاء في المجتمع المغربي، والحرص على تكوينهم ليتخلصوا من النظرات الدونية التي قد تصدر من البعض.
وأمام قلة عدد الأخصائيين النفسانيين المهتمين بالمهاجرين، فإن عبء المواكبة لابد أن تحمله الجمعيات المتطوعة التي تتولى دور الاستماع والمرافقة، علما وأنه وقعت تسوية وضعية 24 جمعية للمهاجرين المقيمين بالمغرب في 2016، كانت تعمل دون وصل قانوني بعد استفادة أعضائها من عملية تسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين المقيمين على الأراضي المغربية.
وهنا تجدر الإشارة إلى جانب المفوضية السامية للاجئين التي تهتم باللاجئين، يوجد عدد من الجمعيات خصوصا في الرباط ووجدة والناظور، وطنجة، ومراكش، وفاس ومكناس، تحاول جاهدة تقديم الرعاية للمهاجرين سواء في مجال الصحة أو التعليم أو التكوين المفضي إلى الاندماج الاجتماعي.
وفي هذا الصدد، تقول الأخصائية النفسية زينب الوزاني، التي تنشط في عدد من جمعيات المجتمع المدني المختصة في شؤون المهاجرين، إن “مهمة الجمعيات في النهوض بأوضاع المهاجرين تبقى جوهرية، لأنها تلعب دور الوساطة بين هؤلاء وبين باقي مكونات المجتمع المغربي”.
وهناك جمعيات تتدخل لضمان التعليم لأبناء المهاجرين، وتساعدهم على الالتحاق بأقسام الدراسة في المؤسسات التعليمية العمومية إلى جانب الأطفال المغاربة، إضافة إلى جمعيات أخرى تسعى لتكوين المهاجرين في مجالات عديدة لإدماجهم في سوق الشغل.
وأشارت الوزاني في هذا الصدد إلى وجود جمعيات تجتهد في تقديم دروس لتعلم اللغة العربية والدارجة المغربية للمهاجرين من أجل تسهيل إدماجهم في المجتمع وتيسير حصولهم على عمل وتجاوز عائق التواصل.
وهناك جمعيات تخصص دروسا للتكوين المهني للأفارقة سواء في الطبخ المغربي والخياطة بالنسبة للنساء المهاجرات، أو تكوينا في بعض المهن والحرف اليدوية من قبيل الحلاقة والنجارة والبستنة والتشجير، والطبخ والحلويات والحلاقة والتدبير المقاولاتي والتمريض.
ويشكل الإقبال على تعلم الطبخ المغربي قاسما مشتركا لبعض المهاجرات الأفريقيات من أجل إيجاد فرص جيدة في سوق العمل، بينما اختارت فئات أخرى التخصص في مهن الخياطة والحلاقة والسيراميك وغيرها من المهن. ويشدد المشرفون على الجمعيات التكوينية على أن الاندماج سيكون سهلا، مع وجود برامج لتكوين ومرافقة المهاجرين.
ومن أجل دعم الاندماج للمهاجرين الأجانب من الحاصلين على الإقامة القانونية، تقدم الحكومة المغربية دعما ماليا لمنظمات غير حكومية تشتغل مع المهاجرين.
إلى جانب الدور الرائد في مجال الصحة وضرورة مرافقة المهاجرين للحصول على الخدمات الاستشفائية، علما أنه حتى الآن، ورغم التسوية القانونية، فإنه لا يوجد في المملكة أي إطار قانوني للاستفادة من مجانية العلاج كما هو الشأن بالنسبة للمواطنين المغاربة الفقراء الذين يحصلون على بطاقة “الراميد” التي تخول لهم العلاج مجانا.
إدماج المهاجرين حق مكفول بمقتضى القانون المغربي، وهو أمر يتماشى مع الالتزام الذي تعهد به المغرب اعتبارا من مصادقته على الاتفاقيات الدولية.